إذا أردنا أن نعلم سر الحرص على استعجال إصدار قانون الأحوال الشخصية (الإسلامي) فعلينا تدبر القصص التالية:

القصة الأولى: في منتصف عام 1403هـ زارني أحد الزملاء المعينين حديثاً، وكان مما دار بيننا في تلك الجلسة أنه سألني عن ميراث الجد مع الإخوة؟ فذكرت له الخلاف، وأن الإخوة يسقطون بالجد في رأي المحققين، وأما في المذهب الحنبلي فللجد الأحظ على التفصيل الوارد في كتب المذهب.

عندما شرعت في سرد التفصيل ضاق ذرعاً، وقال: أظن أن الأخذ بالقول الأول أفضل. فتوهمت أنه أدرك ما يرجح ذلك القول، وكنت تواقاً لاقتناص اللطائف، فسألته: وما الذي رجح لديك ذلك القول. فصدمني بجوابٍ أخرق، فقال: لأنه أسهل في التطبيق.

مثل هذه الأجوبة الرعناء تثيرني تجاه أصحابها؛ خصوصاً: من في مثل حال صاحبي، فأغلظت له القول، وقلت له: اتق الله! أتسقط الإخوة من الميراث؟ لأن القول بإسقاطهم أسهل عليك في التطبيق! أفلا تركت القضاء كله؛ لأن الترك أسهل عليك وأسلم لك في دنياك وأخراك، أو فابذل جهدك وطاقتك في تحرير محل النزاع، ثم أنت وما يلهمك الله إياه؛ فلن تعدم الأجر الواحد إن حرمت الأجرين؛ ما دمنا في فراغٍ تشريعي ملزمٍ لمثلك من المقلدين.

القصة الثانية: يتقدم الرجل إلى رب الأسرة خاطباً موليته، وبعد زمنٍ يرحب به ولي المخطوبة، ويتفق وإياه على شروط العقد، ثم يحصل الزواج ويلتئم شمل الزوجين، وتحمل المرأة وتضع مولوداً وثانياً، ثم يكتشف رب الأسرة أن زوج ابنته لا يكافئه في النسب، فيتقدم إلى المحكمة طالباً فسخ النكاح على الرغم من رضا ابنته بزوجها، فيجرؤ قاضٍ على الفسخ، ويتحاشاه آخر، ثم تشيع الأخبار، ويقتنصها المغرضون، فيرمى الشرع الحنيف بالسوء.

القصة الثالثة: يُوقِفُ الرجل قبل موته ثلث ماله على أولاده، فيستفيد من الوقف أبناؤه وبناته، ومن يموت من بناته بعد ذلك فنصيبها في مهب الريح؛ فمن القضاة من يقسمه على أولادها الذكور والإناث، ومنهم من يرى أن حق البنت ينقطع عن أولادها ليعود إلى أبناء الموقف، وهكذا كلما ماتت أنثى انتقل نصيبها إلى الذكور ممن هم في درجتها مهما بعدوا عن الميت الأول، ولا يزال الناس في حيص بيص؛ لا يدرون من هو المصيب، ولا من هو المخطئ.

القصة الرابعة: ينفصل الزوجان وبينهما أولاد، فيختلفون على من يكون الأحق بالحضانة، فيحكم قاضٍ للأب؛ لأنه الأقدر على الإنفاق والمتابعة، ويحكم آخر للأم؛ لأنها خيرٌ للمحضون من أبيه - وإن كانت متزوجة - ما دام الزوج عدلاً راضياً بضم أولادها إليها، ويضطر قاضٍ ثالث؛ لإدخال أم الأم ليحكم لها بالحضانة، وهي وابنتها - بعد ذلك - بالخيار.

هذه القصص مما تحدث في محاكم المملكة على مدار العام في المحاكم الابتدائية، وهذه الاجتهادات المتنافرة تلقى تنافراً من نوعٍ آخر لدى محاكم الاستئناف؛ فتؤيد بعض الأحكام، ويستدرك على بعضها، وينقض بعضها الآخر، بل إن دوائر محكمة الاستئناف الواحدة يحصل بينها من الاختلاف ما يحصل بين قاضيين في محكمة واحدة، فضلاً عن الاختلاف الحاصل بين محكمتين أو أكثر من محاكم الاستئناف.

لقد أدرك ولاة الأمر في دول مجلس التعاون الخليجي أهمية إعداد قانون للأحوال الشخصية، فأوصوا بإعداده واستمداده من أحكام الشريعة الإسلامية، ومن مدرسة أهل الأثر التي يمثلها المذاهب الثلاثة (المالكي، والشافعي، والحنبلي)، وقام وزراء العدل الخليجيون بالاتفاق على وضع القانون المطلوب من قادة دول المجلس، وبعد اكتماله في عام 1417هـ اتفقوا على أن يكون استرشادياً لمدة أربع سنوات، على أن يقرر العمل به لزوماً بعد ذلك؛ لتوحيد إجراءات العمل في قضايا الأسرة في جميع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، إلا أن أمر إقرار النظام والإلزام به تأخر أكثر من عشر سنوات عن الموعد المحدد لابتداء الإلزام به، فكان المجال فسيحاً لحدوث الاختلافات، وتنوع الاجتهادات، ونشوء انشقاق فكري، وتصعيد صحفي، واستعداء الجمعيات الحقوقية في أنحاء العالم على القضاء السعودي؛ ليستقر في أذهان العالم أن القضاء السعودي يرعى التفرقة الطبقية بين أفراد مجتمعه؛ خلافاً لما يفخر به الدعاة إلى الدين الإسلامي من أن الشريعة الإسلامية تحث على نبذ الفرقة، وتؤكد على ذلك؛ كما في قول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (يا أيها الناس!، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى).

إن الدعوة لانفلات الأمر - كما هو حاصل في القصص الأربع السالفة - ليس من الحكمة في شيء، وإن إلزام الناس بأحكام القانون الخليجي للأحوال الشخصية غير بعيد عن إلزام القضاة بالحكم بمذهب محدد، وبالاستناد إلى كتاب معين أو كتابين.

إن ما سيعود على المجتمع الخليجي من فرض العمل بقانون الأحوال الشخصية أكبر مما يتصوره القادة السياسيون، فلماذا التأخير؟ وأي فائدة في التريث فيما يهم العامة، ويحفظ لهم حقوقهم واستقرار أحكام قضاتهم.

إن تشبث المانعين بكون التقنين يمنع من الاجتهاد منقوض بأن الإلزام حاصل في محاكم المملكة العربية السعودية بما في كتابي "كشاف القناع" و"شرح منتهى الإرادات".

أفلا سأل مانعو التقنين أنفسهم عن حكم القضاء بغير هذين الكتابين قبل تأليفهما من الشيخ منصور البهوتي يرحمه الله؟

أليس الإلزام بالحكم بما في كتابين لمؤلفٍ واحدٍ مات قبل أكثر من ثلاثة قرون من الغرابة ما ليس في الإلزام بما في قانونٍ أعده نخبة من العلماء المعاصرين بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة، وبما يتفق مع أصول وقواعد المذاهب السائدة في دول الخليج العربي؟

- أليس للقرار السياسي في مملكتنا العربية السعودية كلمة الحسم فيما يهم أمر العامة؟.

- لا بد للناس من ملاذٍ يستظلون برأيه وحكمته وعقله وحزمه عندما تختلط عليهم الأمور وتحار منهم الفهوم، فمتى؟ وأين؟