-1-
كان للعولمة دورها الفعال في الغرب، في تشكيل قيم القرن الحادي والعشرين. وقد انشغل في هذا الدور كبار المفكرين والفلاسفة من أنحاء متفرقة من العالم نظراً لأهمية هذا الدور. ومن هؤلاء المفكرين والفلاسفة، المفكر الأمريكي المعروف بول كينيدي، المؤرخ ومدير برنامج دراسات حول الأمن الدولي في جامعة "ييل"، والاختصاصي في السياسة الدولية. والمفكر الفرنسي جاك دريدا، مدير الأبحاث في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. ومفكر من البيرو، فرانسيسكو سجاستي، المستشار السابق لرئيس وزراء البيرو، والرئيس السابق للهيئة الاستشارية للعلم والتكنولوجيا، من أجل التنمية التابعة للأمم المتحدة.
-2-
وبول كينيدي بدوره، يشجب المفاعيل، التي يعلن عنها المستفيدون من دنو العصر الرقمي، ويذكرنا بواقع الانقسامات الاجتماعية المتصاعدة التي ترافقه.
في حين أن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، يقف في مواجهة "مفاعيل العولمة" الحقيقية، سواء أكان الأمر يتعلق بفرصة تحقيق الشمولية الفعلية، أم بالخطر الموجود على أرض الواقع، والمتمثل في انتصار الهيمنة في مختلف وجوهها. ودريدا يدافع عن موقف الحذر النقدي، إزاء المجاملات البلاغية حول "نهاية العمل"، و"العولمة اللاغية للفروقات". وهو من خلال تحليله لمفاعيل العولمة على العمل، والغفران، والسلام، وإلغاء عقوبة الإعدام، يسوق جملة فرضيات تبرز أهمية القرار السياسي، والقانون الدولي.
أما فرنسيسكو سجاستي، فلاحظ انهيار أيديولوجية الفيلسوف فرانسيس بيكون (1561-1626) التي كانت تُسيّر حتى الآن التقدم العلمي. واقترح سجاستي رؤية مغايرة لمسار العولمة، تكون غايتها تركيز الجهد اللازم لإعادة تحديد مفاهيم التطور والتقدم، على قاعدة الحوار الثقافي، بين الشمال والجنوب.
-3-
يتحدث بول كينيدي عن "القلق في العولمة" مما يُذكِّره بكتاب فرويد الشهير "قلق في الحضارة". وهذا القلق يحدده كينيدي من خلال انتقال المال – وهو الجانب المهم في العولمة – إلكترونياً وبمليارات الدولارات، وبسرعة هائلة في الأسواق. وكل هذا من أجل أن نبرهن على إحدى قيم العولمة في القرن الحادي والعشرين، وهي وحدة السوق العالمية، ووحدة المجتمع الإنساني، الذي أصبح متداخلاً تداخلاً إنسانياً فعلياً، تحقيقاً لرؤية آدم سميث في كتابه المعروف "ثروة الأمم".
-4-
ويرى بول كينيدي أن العولمة، ذات تأثير كبير على قيم القرن الحادي والعشرين، من حيث إن العولمة، لا تعني إلا الناس الأكثر ثراءً، في حين أنها تترك وراءها مليارات من البشر الفقراء والجوعى. وقد خاب أمل الأونيسكو - في هذه الحال - في أن تصبح "الإنترنت" الرافعة الأكبر، لتنمية العلم والثقافة بين الشعوب الفقيرة غالباً. حيث إن آخر الإحصائيات تقول إنه بينما يستعمل في الدول الغنية – أمريكا مثالاً لا حصراً - واحد من اثنين الإنترنت، فإن واحداً من عشرة في الدولة النامية، يستعمل الإنترنت، حسب صندوق الأمم المتحدة للسكان FNUAP.
-5-
ويرى كينيدي، أن ثورة المعلومات (الإنترنت) (أداة العولمة الرئيسية) قد أحدثت حزمة من القيم الجديدة في القرن الحادي والعشرين، من حيث إنها أحدثت شرخاً بين الناس، بدلا من أن تردم الهوة بينهم. فقد ضاعفت الإنترنت حتى يومنا هذه الفروقات بين البلدان التي تمتلك التكنولوجيا، وتلك التي تجد نفسها محرومة منها. ففي أمريكا زاد الحاسوب الآلي والبريد الإلكتروني من الفروقات الاجتماعية. فتضاعفت المسافة بين الأكثر تعلماً (وهم بشكل خاص من البيض والآسيويين)، ومن هم دونهم في المستوى العلمي (السود بشكل أساسي). وهذا الفارق نلحظه في كل مرحلة من مراحل الحياة، من التعليم الابتدائي مروراً بالتعليم الجامعي، وصولاً إلى الانخراط المهني.
وهذه الظاهرة تتكرر بشكل واضح في بلدان الشرق الأوسط. فهناك شخص واحد من أصل أربعين شخصاً، يمتلك وسيلة الدخول إلى الإنترنت. وفي أفريقيا تصبح نسبة واحد إلى 130. ويعترف كينيدي، أنه من المستحيل أن نتوقع تحسناً لهذا الواقع، طالما بقيت البنى التحتية على حالتها الحاضرة. وطالما بقيت الدكتاتوريات القروسطية، تحكم معظم أنحاء العالم العربي.
ويقرر كينيدي في النهاية، ونتيجة لذلك كله، أن أمريكا سوف تضم قريباً طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين هما: طبقة تُتقن استعمال الوسائل المعلوماتية، وطبقة أخرى غير قادرة على ذلك. وتلك واحدة، من تأثير العولمة، على قيم القرن الحادي والعشرين.
ويدق كينيدي ناقوس الخطر، عندما يقول إن الاكتفاء بالنظر إلى الهوة بين العالم المتقدم والعالم الثالث، سوف يولِّد استياءً عاماً، يهدد الأمل في قيام عالم متجانس، وتفاهم دولي، ويقوِّض القيم النبيلة، في القرن الحادي والعشرين. وهذا هو التحدي الأكبر في العصر الحالي.
-6-
وفي إشارة من المفكر التونسي محمد الحداد، إلى مدى أثر ثورة المعلومات في فكر شباب الثورة التونسية والمصرية، قال في كتابه "مواقف من أجل التنوير" (ص 277)، من أن "الثورة التكنولوجية، لا توفر مجالاً واسعاً للتفكير النقدي، وإن جاءت فتحاً في مجال توفير المعلومات، ودمقرطتها. لأن التدفق العالي والعشوائي للمعلومات، يؤدي إلى ضمور ملكة النقد، وتضييق إمكانية السبر والتمحيص، ورفع فرص التلاعب بالعقول، وذلك بنفي القدر المترتب عن تدفقها الشحيح المراقب سابقاً. وليس المسؤول عن ذلك التكنولوجيا ذاتها، بل المجتمعات التي ظلت متخلفة عنها بمراحل".