هنا صرخات أمهات ثكالى، حرمهم آباء معتدون من حقهم الطبيعي في حضانة أطفالهن، تعليقاتهن على قصة الطفل أحمد تختصر القبض على المآسي وتسبر أسبابها، اخترت اثنين منها علّها تغني عن المكرر والمشابه:
"أم محرومة من أبنائها: أرجوكم أنصفوا الأمهات المحرومات من أبنائهن.
هذا الطفل ضحية لأب حرم أمه منه ليسقط فريسة لزوجة الأب، وكم من آباء ظلمة بمجرد حدوث الانفصال يستخدمون الأولاد سياطا لجلد الأم المسكينة، أنا أم محرومة من أولادي لثلاث سنوات ويصر والدهم على حرماني منهم، بل يجعلهم يقفلون الهاتف في وجهي لو حاولت الاطمئنان عليهم، فمن ينصرني؟ ومن يعيد إلي أبنائي؟ ومن يوصل صوتي لولاة الأمر لسن قانون يحمي كل أم من هذا الظلم وأعلم أن غيري كثيرات، وحسبي الله ونعم الوكيل".
من ينصرها يا مجتمع الفضيلة؟! أم من يجيب لوعتها ويسكن لهفة قلبها؟! من يوصل صوتها؟ ومتى تفرح بقانون عادل يرد لها أبناءها وهي شامخة الرأس رافعة إياه؟
أما "أم الغالية" كما نعتت نفسها فوضحت قصتها مع مؤسسات عديدة، رجت أنهم سينهون أزمتها فخاب أملها:
"منذ قتل أحمد وأنا لا أكاد أنام حرمت من ابنتي من خمسة أشهر وكأنها خمسة دهور، والسبب عندها أب ظالم مثل أبو أحمد، ويا ليت حاطها عند زوجة أب أبدا عند عماتها حسبي الله وكفى، القاضي يقول أعلم أنه غير سوي وسلمها له، حقوق الإنسان قالوا: ما بيدنا شيء، وحماية الطفل قالوا: رفض الأب يتجاوب معنا، بعدين وش درانا أن بنتك معنفة عند عماتها قلت وش دوركم زوروها. قالوا: ماعندنا الصلاحيات، يا ليتني أجد أحدا يتبنى قضيتي ويعيد لي ابنتي لاحول ولاقوة إلا بالله والمشكلة لما أتصل..."
لم تكمل أم الغالية تعليقها للأسف، وبالنظر لقضيتها فالقاضي يعلم أن زوجها "غير سوي" وحكم له بالحضانة!، والمؤسسات الأخرى وقفت مكتوفة الأيدي عن نجدتها لحجج واهية، فمن سيعيد لها ابنتها؟! ألا نستحق الإجابة يا وزارة العدل؟! أم ترانا في كل قضية سننادي ملكنا ـ حفظه الله ـ لينقذ إحداهن في ظل غياب قانون صريح وواضح، كما فعلت والدة أحمد لإنقاذ ابنتها "ريتاج" من مصير مجهول، السؤال مازال ينتظر الإجابة، فلعل وعسى!
هل نحن ننادي بما ليس بمعقول؟ هل تقنين المصالح أمر بالغ الصعوبة على وزارة العدل، خاصة والأرواح تزهق في ظل تغييبه، أم أن الأطفال لاحق لهم بل هم أملاك للأب يتصرف بمصيرهم منذ أن يسميهم بأسمائهم، وتجري هذه الثقافة على المحاكم التي تقضي بالحضانة للأب بلا حق، وإن كان غير سوي؟!
لا شك أن والدة أحمد تمثل براءة اعتدي على أمومتها وحقها في حضانة أبنائها، وزوجة الأب مجرمة وقاتلة، والقاسم بينهما طفل راح ضحية ثقافة مجتمع تبلدت على وضع ألبس عاداته ثياب التقديس بلا برهان ولا دليل، لتزهق أرواح أطفاله بدم بارد.
الصحفية المميزة الزميلة نورة الثقفي قدمت في تقريرها المنشور في "الوطن" الذي أعدته من السجن مع قاتلة أحمد معلومات مهمة لا يمكن معرفتها لولا أنها صحفية مهنية تبحث عن المعلومة ولا تقف بانتظارها، في تقريرها يتضح وقوف القاتلة في منطقة ضبابية تتجاذبها عاطفتا الحب والكراهية لأحمد؛ تجرها أحيانا ذكريات براءة طفولته فتبدي المحبة "وتؤكد أنها تحبه ولم تكن تريد قتله" ثم يعتريها عنف الكراهية البغيض بحكم ظروف حياتها فتهجم بأنانية وتصفه بـ "المعاق"، وبمحاولة الإمساك بطرف خيط يجمع الضدية في مواقفها "عزت الدافع الأساسي في جريمتها إلى ضرب زوجها لها وتعنيفه المتواصل".
حكاية تلك القاتلة سارت ضمن أحداثها إلى شفير النقائض ليسفر وقوفها على حافة موت الإحساس إلى مزيد رغبة في حياة تنتقم فيها من كل من قتل فيها آمالها وأحلامها بزوج تحبه ويحبها.. تسكن له ويسكن لها، مؤملة أن حكايتها التي أكدت "أن أحدا لم يسمعها منها" "ستفسر أسباب قتلها لطفل زوجها".
الحكاية بكاملها رصدت مجمل ثقافة القهر التي تبدأ بالطلاق والعودة للأهل إلى محاولة الهروب بآمال أكبر من إمكانية التحقق في ظل أجواء تفصّل الحقوق بحسب الذكورة والأنوثة، فالمطلقة تظل تسحب جريرة طلاقها إلى أن تفارق بيت أهلها لآخر لا يهم من أو ماذا يكون، المهم أن يلم بقايا إنسانة أهلها ينتظرون بفارغ الصبر طارقاًً يتكفل بحمل العار (= ابنتهم المطلقة)، وبقبلة خاشعة على رأس ذاك المنقذ محملة بأسمى آيات شكرهم والعرفان!
ورغم أن القاتلة "بدأت محاولتها مبكرا في إقناع زوجها الجديد بإعادة أطفاله إلى أمهم "إلا أنه كان يرفض، رغم انشغاله عن رعاية أبنائه وتفقدهم الواضحين، وتذكر القاتلة حظها من التعنيف والإهمال "كان أبوأحمد عنيفا معي، كان يهملني ولا يسمح لي بالخروج من المنزل..."؛ إنها الحياة التي جاءتها تحمل ضوءا خافتا يهرب من حلكة الظلام ويرجو النجاة من عتمة المجهول، وتضيف مفصلة "كان يضربني ويرفع صوته علي حين أطلب منه أن ينتبه لي ولطفليه ويحترمني أمامهما، لكنه لم يكن يعير كلامي أي اهتمام".
وها هي آفة المشاعر "الخوف" الذي يختزل بداخله أقبح التصرفات والأحاسيس يستقر في نفسها ويتملكها من هذا الزوج الذي حطم بقايا حلمها، وعندما تشتكي لأسرتها يأتي رد الخذلان المكرور عليك بـ"الصبر والاحتساب"، كان الطلاق لعنة تحاصرها تخويفاً من جانب أهلها وتهديدًا من جانب زوجها، الذي لم تحركه صرخات طفله وهي تضربه بعنف حتى تشنج! أخمدت شعور الرحمة بداخلها ليستقر مكانه شعور الخوف المهين المنتصر للأنانية والرغبة في تخليص الذات ليقودها لإكمال مشاهد الجريمة، "بدأت أفكر كيف وماذا أفعل فيما لو مات"، أنهى سؤال الخوف فيها كل المشاعر واستوطن كل تصرفاتها، فانتصر الشر في داخلها، وألقت بالطفل في العمارة المهجورة، لم ترحم ضعفه ونظرات ألمه المستجدية التي فقدت من وهنها الصوت، لتودّعه بقبلة غادرة ووعد مكذوب، غادرت المكان مسرعة والخوف ينهش قلبها لوحشته، وتركت طفلا يعاني سوط العنف، وبشاعة الخوف، وضعف الحال، ورجاء الخلاص..
أشارت القاتلة إلى أنه طوال الأيام التسعة التي سبقت اكتشاف الجريمة كان زوجها يشعر بأنها تخفي عنه أمرا ما، ويطلب منها أن تخبره ولا تخاف، وهذا يوضح أنه كان يشك فيها في الوقت الذي كان يرسل التهم لوالدة أحمد باختطافه!
تقول نورة الثقفي في بداية تقريرها:
"بكت وترحمت واشتكت ثم حملت أسرتها وزوجها مسؤولية الجريمة" عبارة جلت كل المشاعر التي تحدثت بها القاتلة، ورسمت خطوط الثقافة التي أنتجت جريمة بهذه البشاعة.
ثقافة التجني لن ينهي جرائمها سوى ثقافة المصلحة، التي تعنى بالأصول الخمسة التي بالحفاظ عليها تتم المصلحة وتنتفي المفسدة، وهي النفس والنسل والعقل والدين والمال (فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق) الغزالي- المستصفى.
انتشار الجرائم ضد الأطفال مقياس لمفسدة، سببها أحكام ارتهنت للمزاجية وتطبيق آراء فقهاء قديمة أصبحت اليوم مفسدة، والمصلحة كل المصلحة في القضاء على المفسدة؛ بمدونة حقوقية عادلة تمضي مع الحق والخير والإنصاف والعدل، يا وزارة العدل.