قد يستغرب القارئ الكريم عنوان هذا المقال الذي يجعل من الديموقراطية شيئا، والانتخابات شيئاً آخر ويحاول الفصل بينهما، وهو فصل يبدو من الوهلة الأولى غير مبرر كون الانتخابات هي التجلي العملي لمفهوم الديموقراطية، وهذا صحيح من الناحية العملية بمعنى أنه لا يمكن فصل الديموقراطية عن الانتخابات فهما أشبه بوجهي العملة الواحدة التي يختلف كل وجه في شكله عن الوجه الآخر، لكنهما في النهاية عملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما ولا بد من التعامل معهما معاً، والذين يحاولون الفصل هم في الأساس يتعاملون مع شيء واحد لا يمكن فصله إلا نظرياً كنوع من التفكيك، أما في حالة الممارسة الفعلية فلا بد من إعادة بناء المفهومين والتعامل معهما. كما أنهم يفصلون كنوع من محاولة التخفيف من وهج كلمة الديموقراطية، في حين أن الانتخابات تبقى هي الجانب العملي الترشيحي كوسيلة من الوسائل التي يمكن تحقيقها في أي مجتمع دون توجس.

الفصل بين الديموقراطية والانتخابات إجراء خاطئ من الأساس، ولذلك يحق للقارئ هنا الاعتراض المبدئي على فكرة وعنوان المقال، لكن ليس هذا إلا فصلاً نظرياً لا يهدف في النهاية إلا إلى إعادة البناء والوصل من جديد، وتجذير هذا الوصل وتأصيله فكرياً وثقافياً ولو من الجانب النظري على الأقل إذا لم يكن بالإمكان تحقيق الجانب العملي في المستوى الحياتي العام.

الكثير من مناطق العالم العربي تحاول الفصل بين الأصول الديموقراطية والانتخابات أو تدعي أنها تمارس الديموقراطية من خلال ممارسة الانتخابات مما سبب أزمة وعي أو أزمة ممارسة وتخلق داخل هذه الانتخابات صعود تيارات عديدة كانت ترفض الانتخابات قبل أن تمارس نوعاً من البراجماتية السياسية لمحاولة الصعود وقد نحج البعض منها في الوصول أو اقترب وقد كان الرفض هو سيد الموقف من قبل. ما بين الرفض والممارسة كانت هناك مسافة من الشد والجذب حول إشكالية مفهوم الديموقراطية باعتباره مفهوما شاملاً لا يتوقف عند شكل معين بل يسعى إلى بلورة رؤية شاملة تضع الجميع تحت طائل "دمقرطة" الحياة اليومية بما فيها جوانبها الدينية والاجتماعية والسياسية.

كحال الكثير من القضايا والمفاهيم والممارسات المتأصلة من خلال مفهوم محدد في عالمنا العربي فقد تم فصل المفهوم عن الممارسة كما يتم فصل المركّب الواحد إلى عنصرين والاستفادة من أحدهما دون الآخر، وتم وضع الحواجز الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية دون مفهوم الديموقراطية والاستفادة من الانتخابات كعملية تقنية بحتة منفصلة تماما عن الأصل الذي نشأت عنه لأن الأولى: (الديموقراطية) تأسست وفق الكثير من القضايا التي تجنح إلى الاستقلالية الاجتماعية عن أي نسق ضاغط أو نسق تأسس على حالة من الدمج القسري في السياق العام في غياب فردانية الذات الفاعلة في المجتمع في حين أن الثانية: (الانتخابات) تمنح الفرصة لممارسة نوع من الديموقراطية.

تعمل الانتخابات على فتح الفرص للجميع للوصول إلى ما يتم الانتخاب حوله ولنفرض مثلا البلديات أو الأندية الأدبية كحالة سعودية خاصة جرى العمل عليهما منذ فترة، وهذا يستدمج كافة شرائح المجتمع من غير أن تكون هناك إشكالية ثقافية أو فكرية محرجة في تبني الانتخابات في حين تعمل الديموقراطية على أبعد من ذلك إذ تغوص في العمق الثقافي وتحاول أن تؤصل حالة الديموقراطية في كل ما يمس حياتنا حتى في أخص خصوصياتنا وهذا محرج وغير مرغوب فيه في العالم العربي. إن الديموقراطية التي لا تمنح الآخرين حق الاختلاف وتسائلهم على هذا الاختلاف سواء كان دينياً أو فكرياً أو مذهبيا لا يمكن لها أن تسمح بوجود انتخابات حقيقية؛ بل هي أشبه بشكل من أشكال السلطة المتوافق عليها اجتماعياً كنوع من توثيق شرعية السلطة من خلال التصويب على كل ما يشوبه من شوائب والدليل موافقة الكثير من التيارات الإسلامية لوجود الانتخابات ممارسة على أرض الواقع، والاستفادة منها بعد أن تم فصل مكونها الفكري والثقافي الذي يسمح بالتعددية قبل أي شيء آخر والتمثيل الشعبي لها من خلال الانتخابات.

إنه لا يمكنني وأنا أتوجه لصندوق التصويت أن أحمل في ذاتي مشروعاً يهدم مفهوم الديموقراطية لأني أتعامل معها بآلياتها. بمعنى لا يمكنني أن أصل إلى مركز وأنا أحمل في ذاتي ما يخالف مبدأ هذه الانتخابات كأن أمنح صلاحيات مطلقة أمارس فيها ما يحلو لي وأفرض على المجتمع ما أتصوره دون الرجوع إلى شروط العملية الانتخابية نفسها. حينما أريد أن أصل إلى ذلك المركز فإنني لابد أن أحمل عقلا ديموقراطياً يجعلني أقبل منافسة مخالفي، وربما الهزيمة أيضا دون أن ألغي ذاته أو يلغي ذاتي.

من خلال طرحنا هذا يتضح أن الانتخابات نتيجة وليست وسيلة. هي نتيجة العقل الديموقراطي المتأصل من خلال منح الحريات للآخرين في الاختيار ليس على المستوى الانتخابي فقط كما هو جار حالياً؛ بل على كل المستويات السلوكية بحث تتأصل فكرة الاختيار الحر لدى الناس دون أي استلاب فكري أو أيديولوجي يجعل الانتخابات أقرب إلى الفعل الصوري منها إلى عمل ديموقراطي حقيقي يجعل كامل الحرية لي في منح صوتي لمن يخالفني في المذهب فقط كونه يحمل مشروعا وطنياً يستفيد منه الجميع دون صالح فئة عن فئة أو صالح تيار دون التيارات الأخرى. صحيح أن هذه رؤية مثالية قليلاً لكنها ليست مستحيلة أو صعبة المنال. إنها متجسدة في أكثر الأقطار التي تعمل على مبدأ ديموقراطي في جوانب حياتها كتركيا مثلا، وإلا ما قبلت تياراً إسلامياً يقود دولة علمانية إلا لكون المبدأ الديموقراطي متأصلا فيها.