إذا أمطرت، غرِقت وتعلقت بحبل غسيل تجفف عليه بقايا ملابسها. وإن أجدبت، هامت وجف ضرعها، وإن أينعت، جاءتها العقول الشقراء والعيون الخضراء لتقطف ما فوق الأرض وتجني ما تحتها، فتخبز لأبنائها الجوع وتطبخ لهم شظف العيش، وتطعم الكهول حليب اليأس، ثم تستجدي الكواسر والجوارح لتبقي لها عظام أطفالها وبهائهما قرابين لذاكرتها.. وساستها -حماهم الله- مشغولون يطبقون كل النظريات السياسية والاقتصادية، لكنهم لم ينجحوا إلا بنظرية الاستبداد والفساد.. إنها أفريقيا السوداء، أكثر القارات موارد طبيعية وأمطارا وأنهارا، وأكثرها جفافا وتصحرا وجوعا وموتا. هي أفريقيا، جارة العرب وخاصرتهم، ومزرعة إسرائيل الكبرى وطوق نجاتها.
مشكلة المؤسسات العربية الرسمية هو عقلية "الكرم" الرومانسي، فالمساعدات الحكومية التي تقدم للدول الصديقة وغير الصديقة بدون أي شروط سياسية، وتقدم تلك المساعدات دون أن يستثمرها المانحون العرب لصالحهم، بحجة أن تلك المساعدات هي التزامات أخلاقية وإنسانية. وكأن المساعدات التي يقدمها البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي والمؤسسات والمنظمات الدولية، تقطر التزاما، وأخلاقاً وإنسانية وتنمية! أو كأن تلك المؤسسات والمنظمات الدولية لا تُدار ولا توجه بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل مصالح حكومات وشركات غربية!
لقد بدأت الصناديق العربية منذ ستينيات القرن الماضي، في سنة 1969 . وقد أسهمت الصناديق العربية إسهاما كبيرا في تأسيس البنى التحتية والحد من مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة في العديد من الدول النامية. وفي1975 تأسست مجموعة التنسيق للصناديق العربية، أو ما سمي بمجموعة "العون العربي" وتضم ثماني مؤسسات وصناديق وطنية وإقليمية: صندوق التنمية السعودي، صندوق أوبك للتنمية الدولية "أفيد"، البنك الإسلامي للتنمية، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، صندوق أبوظبي، المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا( باديا)ـ الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، وصندوق النقد العربي وبرنامج أجفند، بهدف تنسيق جهودها وتعزيز العمل المشترك، وهي تقدم مساعداتها إما على شكل منح أو قروض أو مساعدات لوجستية وفنية واستشارية.
لست ضد انفصال جنوب السودان لو كانت المسألة سودانية بحتة، لكن المتتبع لكل الأحداث التي مر بها مشروع فصل الجنوب السوداني منذ خمسينيات القرن الماضي، يدرك تماما أنه مشروع إسرائيلي. يقول موشي فرجي وهو عميد إسرائيلي متقاعد في دراسة أعدها لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب بعنوان: "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان..نقطة البداية ومرحلة الانطلاق"، إن فصل جنوب السودان هو مشروع إسرائيلي من خمس مراحل توجت بفصل جنوب السودان عن شماله وهو مشروع يستهدف بالمقام الأول مصر كدولة مواجهة وإضعاف عمقها الأفريقي بدءا بتجزئة السودان من ناحية وتوتير علاقات الحكومة السودانية مع جيرانها من خلال سياسة إسرائيلية جديدة سمتها سياسة "شد الأطراف". وقد وجدت إسرائيل دعما غير مسبوق لعملياتها من إثيوبيا بالإضافة لأوغندا لاحقا، إلى أن بدأت إسرائيل عملياتها من داخل الجنوب السوداني. وتقول الدراسة إن إسرائيل لم تدعم انفصال جنوب السودان فقط، بل إنها تتحرك لدعم كل الحركات الانفصالية التي تهدد الحكومة السودانية المركزية بما فيها إقليم دارفور. كما أن الدراسة تشير إلى أن انفصال الجنوب السوداني، ليس نهاية المطاف، لكنه نقطة الانطلاقة الإسرائيلية لأفريقيا بمفاصلها الاقتصادية والسياسية.
الشعوب الأفريقية، لا تكن للعرب عداء، بل إن نسبة كبيرة من شعوب أفريقيا هي شعوب عربية، ونسبة ساحقة منها شعوب مسلمة، وحتى المسيحيون منهم بسطاء ومسالمون. لعلنا نتذكر جولة الملك فيصل بن عبدالعزيز في أفريقيا عام 1969، والتي تُوجت بقطع علاقات 15 دولة أفريقية مع إسرائيل.
إن الصناديق العربية مطالبة اليوم، بإعادة النظر في سياساتها التمويلية، لتضع تلك المساعدات في كفة ومصلحة الأمة العربية وأمنها في كفة أخرى. يجب أن تضغط دولنا سياسيا على الحكومات الأفريقية، من خلال توظيف المساعدات الاقتصادية. هذا لا يعني طبعا وقف تلك المساعدات ولا حرمان مستحقيها، ولكن بوضع الشروط السياسية العربية على طاولة المفاوضات التي تكفل التزام تلك الدول المستفيدة بأمن ومصلحة الدول العربية أمام تنامي الاستحواذ الإسرائيلي على القرار الأفريقي.
ليس من الحكمة والعقلانية أن تقدم الصناديق العربية التمويل لبناء المدارس والسدود والمستشفيات والمؤسسات بدون أي شروط سياسية، لدول تعطي التسهيلات للإسرائيليين، ليستخدموها ضد أمن الوطن العربي ومصالحه. والحكومات الأفريقية حين تفتح الأبواب للإسرائيليين، تعرف أن الإسرائيليين يأخذون أكثر مما يعطون، لكنها دبلوماسية الرشاوى الإسرائيلية وبكتيريا الفساد الأفريقي.
استهداف إسرائيل للسودان وتجزئته، ليس عملا عاديا، فمن الناحية الجيوسياسية، يمثل السودان الحبل السري بين العرب والأفارقة عبر التاريخ والجغرافيا. والتلاعب بوحدة السودان وأمنه وترابه ومكوناته يعني قطيعة بين العرب وأفريقيا، واستعداء للأفارقة ضد العرب، وهو في الحقيقة مساس مباشر بالأمن العربي الحيوي. ومشكلتنا الحقيقية مع إسرائيل هي أنها عدو بلا أخلاق، وتمكين عدو بلا أخلاق من سلاح الماء، هو انتحار حقيقي، فالعدو الذي يعتمد بقاؤه على سياسة سفك الدم والبقاء في حالة حرب دائمة بكل مؤسساته، سيمنعك قطرة الماء في حالة اللاحرب. ومن الأخطاء الإستراتيجية المميتة، ألا يستخدم سلاح الصناديق العربية في أفريقيا سياسياً، الآن، لأن استخدامه بعد ذلك، لن يعطي النتائج الإستراتيجية. ويجب أن نعرف أن إسرائيل ليست عدوة للعرب فقط، لكن إسرائيل غير مؤهلة أخلاقيا وحضاريا بكل مؤسساتها وأهدافها و وجودها، وهذا ما أظهرته وبينته استطلاعات الرأي العام في أوروبا والعديد من مناطق العالم، التي صنفت إسرائيل أكثر من مرة بالخطر رقم واحد على أمن واستقرار العالم.
فكفى "رومانسية" عربية و "كرما" مبتذلا .. فقد علمتنا الدروس والتجارب أن الاقتصاد هو الذي يصنع السياسة وليس العكس.