قيام الثورات في العالم العربي نقض مفاهيم كانت سائدة ويتم التعامل معها كمسلمات. ففي مصر بلد أرقى ثورة ربما عرفها التاريخ، كان من المتوقع وشبه المؤكد أن هذه الثورة ستكون في صورة حرب جياع ستطيح بالنظام الاستبدادي، لكن ما حدث هو العكس، حيث شكلها أبناء الطبقة المتوسطة المتعلمون ممن يتحدث الكثير منهم لغتين إذ كانوا هم عصب الثورة في مصر. أما اليمن فهي على حافة حرب أهلية حيث البلد ممتلئ بأطنان من السلاح في أيدي المدنيين وأبناء القبائل الذين سيصيبهم سعار قتل بعضهم البعض إذا ما حدثت ثورة، لكن ما حدث فيها كان ثورة سلمية مسالمة بصورة مبهرة. وحتى تونس لم نكن نسمع أي معلومات تنبئ باحتمال ثورة، ليس لأن نظام بن علي قبضته من حديد، لكن لأن الانطباع العام الذي كان يستقي من تقارير بعض المؤسسات العالمية أن تونس هي بلد أسعد مجتمع عربي، وكذلك إنتاج مؤسسات الفكر والثقافة التونسية توحي بفضاء ثقافي حر، لكن بالطبع المطلعون على خفايا الأمور يعلمون أن تونس في مجال حرية الإعلام وحقوق الإنسان لم تكن صورتها براقة. أما ليبيا فقد نجح النظام القائم فيها في إخفاء كل ما يدور في الداخل عن دائرة الضوء، مما يجعل حتى التوقعات المستقبلية أمرا صعبا. السؤال هل ما حدث حاليا وأسقط كل هذه المفاهيم غير الدقيقة التي كانت تروج لها وسائل الإعلام العربية على قدم وساق، هل جعل الإنسان العربي على الأقل يفقد ثقته بالإعلام؟ أم أنه لا يزال يتلقى كل ما تقوله له نشرات الأخبار، وما يقوله المنظرون كمسلمات.

والسؤال الثاني: هل هذه المعلومات غير الدقيقة ناتجة عن غياب المؤسسات المتخصصة في عمل المسوحات واستقصاء الأوضاع بطريقة مهنية وعلمية في العالم العربي، فتأتي معظم الآراء والتحليلات مجرد تقديرات شخصية للأوضاع، مما يجعلها عرضة لأن تكون صحيحة أو معاكسة تماما لما سيحدث؟ لكن من الملاحظ أيضا أن الكثير من التقديرات كانت تأتي من محللين غربيين، حيث آلة البحث والاستقصاء متقدمة، وتعمل من خلال مؤسسات ضخمة وأفراد محترفين، فهل نعود لنظرية المؤامرة من أن ترويج بعض التوقعات المستقبلية يخدم أجندة سياسية سواء لصالح الأنظمة المستبدة أو لصالح الهيمنة الغربية في المنطقة، أم أن القضية كلها لا تخرج عن أنها كانت تقديرات صحيحة نظريا؛ لكن الحراك الاجتماعي بالفعل مثل الزلزال لا يمكن أحيانا التنبؤ بوقت أو كيفية حدوثه؟