"نسمت من صوب سورية الجنوب، قلت هل المشتهى وافى الحبيب". هكذا قالها الشاعر اللبناني سعيد عقل وفلسفتها حنجرة فيروز. سورية هذه القطعة الكبيرة من أرض الشام التي ملأت الأرض شموخاً ذات عمر. سورية هذا البلد العربي العريق على صفحات التاريخ، والطاعن في الجمال. وسورية الشعب العظيم والإنسان المبدع المسالم. أليس من الظلم أن تتكالب عليه ظروف المصالح والتحديات والأطماع البائسة وتحوله لطاولة نرد لحظوظها؟

سورية كغيرها من بعض بلدان المنطقة العربية والعالم الثالث وقعت في قبضة الحكم بالحديد والنار، وهي الشيمة التي ميزت الأنظمة الاستبدادية على مر التاريخ، والتي شهد التاريخ نفسه أيضاً وأشرف على مشهد توالي سقوطها وتلاشيها، وهكذا قال دائماً.

ومع ذلك لم يحاول نظام الحكم البعثي السوري أن يتعلم من أدلة التاريخ وشواهده، مثله في ذلك مثل أقرانه من بعض أنظمة الحكم المستبدة في الوطن العربي. لقد بقيت فكرة تسيير الأمور بالحديد والنار والترهيب في مخيلة قادة تلك الأنظمة على حالها كيقين، وباركها صمت وبساطة عقلية المجتمعات العربية، فقد شاركت هي أيضاً (بغير قصد) في تفاصيل تأصيل ذلك اليقين الأسود. لقد صنع النظام البعثي في سورية له العديد من المشكلات. التي عجز بنفسه فيما بعد عن تحمل مسؤوليتها أو الإبقاء عليها. مما اضطره للتنازل عن مضامينها تحت ضغط وخيارات المقايضة، كما حدث لقضاياه مع الجانب التركي المتعلقة بمشاكل المياه، ودعم الأكراد، وإقليم إسكندرون، وخلافاته الموروثة مع النظام السابق في العراق، مروراً بقضايا التدخل السوري في لبنان إبان الحرب الأهلية اللبنانية. أضف إلى ذلك قضيته الأهم المتمثلة في مرتفعات الجولان المحتلة من قبل الكيان الإسرائيلي على إثر هزيمة الخامس من حزيران 1967م. الهزيمة التي تركت جرحاً عميقاً في ذاكرة ووجدان الإنسان العربي.

المشهد السوري الآن لم يعد بنفس الضبابية التي ميزته في السابق على الدوام، على الرغم من قوة الطوق الذي يفرضه النظام على وسائل الإعلام والتعتيم في زمن الانفتاح والانفراجات التفاعلية الاجتماعية عالمياً. بل إن كل أجنحة اللعبة قد كشفت عن شكلها ومساحاتها، وما تملكه من خيوط تتفاوت فيما بينها من حيث القوة والتأثير والقدرة على الاستحواذ على نصيب الأسد من كعكة الشكل السوري الجديد. وباعتقادي أن ما سيحدد حجم حصص ذلك النصيب هو المقدرة على كسب عامل الوقت لترتيب أوراق الصفقات، وعقد التحالفات من الداخل وليس من الخارج كما هو الحال في المشهد الليبي.

وتبرز أحجار اللعبة الأميركية الإسرائيلية على طاولة النرد السورية أولاً، كأكبر المستفيدين من صنع الصورة الجديدة للوجه السوري القادم، وما يعني لها ذلك من تحولات مهمة يُفترض أن تساهم في تلبية متطلبات مرحلة تطبيق أحلامها ومخططاتها على الأرض.

وعلى الجانب الآخر تظهر الأحجار الإيرانية كثاني أكبر الحاضرين في عمق الطاولة السورية. ولا يخفى على أحد الطموح الإيراني في أعماق المنطقة العربية، وسعيها الحثيث سياسياً ودينياً لتقوية مشروع الهلال الشيعي شمالاً، الذي سعت منذ سنوات طوال لإكمال عقده من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ليكتمل العقد في شكل (إيران – العراق – سوريا – حزب الله لبنان). ويمثل تحالفها العلني القوي مع النظام السوري، ودعمها اللامحدود له في ظل وجود (حزب الله اللبناني) بكل تأكيد قوة لا يستهان بها على الإطلاق تدعم صمود الداخل بوضوح، وذلك سيؤخر حتماً الوصول لمرحلة الحسم التي قد تصل لمدة لا تخطر على البال، تزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة، وتعيد خلط أوراق المصالح والتحالفات من جديد. وفي خضم هذا الوضع القائم أشك كثيراً في مقدرة الجزء الثائر من الشارع السوري في صنع فوارق حقيقية على صعيد التغيير الذي ينشده وينادي به كمطالب شرعية للشعب السوري، الذي تقابله قسوة وبشاعة ردة فعل نظام الأسد البعثي، والممارسات المهينة وغير الإنسانية مطلقاً في تعاملها مع مدن وجماهير الشعب السوري المسالم والأنيق. كل ذلك لا يُلغي أحقية الشعب السوري فيما هو له بالأصل من خيارات حق تقرير المصير، ولا ينتقص من مقدرة الشارع السوري على قلب الطاولة في وجه الجميع، وتحقيق أحلامه وفعلها ببهاء في أي وقت قد يلعب النرد لصالحه. لكن الواقع يقول: في سورية الطموحات كبيرة، والخيارات خطرة ومعقدة، واللعبة في بدايتها ماتزال. فلمن يا ترى ستقرع الأجراس، ولمن سيغني العندليب (وعليكِ عَينِي يا دِمَشقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ ).