قرأتُ كما قرأتُم ما نشرته صحيفة الوطن الجمعة الماضية؛ عن قاتلة طفل الطائف "أحمد" الذي تابعنا حكايته مع زوجة أبيه التي لم ترحم براءته وقتلته، وما صرحت به من كونها ضحية لعنف زوجها وإهماله، وأسرتها التي فضلت أن تعيش ابنتهم التعاسة على العودة مطلقة. والحقيقة أن الزميلة نورة الثقفي التي أهنئها على حسّها الصحفي أخذتني بما نشرته إلى ذاكرة سنوات مضت، تحديداً 2004 حين زرتُ كصحفية بصحيفة الشرق الأوسط بريمان جدة "سجن النساء" ليومين قضيت جُل وقتهما مع السجينات، والتقيت خلال الزيارة بمحكومات بالقصاص لجرائم قتل، وأخريات بالسجن والجلد عقوبة خلوات غير شرعية ودعارة، وحينها أصابني الاكتئاب، ففي كل قصة لأولئك النسوة أجد ضحية؛ من الممكن ألا تصل إلى السجن لولا العادات.
وأتذكر جيداً أني قابلتُ ضحايا وإن اختلفت قصص جرائمهن ودوافعهن؛ لكن القاسم المشترك هو الظروف الأسرية وعادات المجتمع وتقاليده الذكورية البليدة، التي لا تُعر للضغوط النفسية للمرأة اهتماماً، ولا تضرب حساباً لأن تدفعها دفعاً فتكون مجرمة كردّة فعل عكسية وانتقامية.. وبصراحة؛ بيننا غيرها كثيرات خارج السجن، لكنهن على شفا جريمة قتل وربما جريمة أخلاقية كخيانة زوجية مثلاً، وهناك من تحيط بها رائحة الموت الذي تختاره انتحاراً، كالتي تنشرها الصحف وخاصة للفتيات، بجانب حالات الانتحار الفاشلة التي تصل للمستشفيات بأعداد كبيرة للنساء، كما أخبرتني ذات مرة إحدى الأخصائيات النفسيات، مما يُظهر مدى ما تعانيه الكثيرات في المجتمع الذي يسلبهن خياراتهن المباحة شرعاً ويترك لهن ثلاثة: إما أن تصبح مُجرمة كقاتلة أوزانية فلا يرحمها، وإما منتحرة فلا يرحمها، وإما ضحية لإجرام الآخرين وأيضاً لا يرحمها!! فحين تريد الطلاق من زوج ولو كان سكيراً أو ظالماً لا يعتبرها سوى إناء لتفريغ شهوته يعتبرها: "الناس / نحن" فاسقة مع وقف التنفيذ، وحين يتحرش بها جنسياً أحد أفراد أسرتها وربما اغتصبها؛ يُقال لها "أثبتي بالدليل الذي ذهب مع الريح" وتذهب معاناتها أمام تبريرات الولي الزائفة لأنها ناقصة عقل ودين! وحين يتم عضلها وحرمانها من الزواج؛ يُقال لها "لا زواج إلا بوليها الظالم درءا للفتنة القبلية" ولأجل عيون القبيلة تُهدر أمومتها، وحين تُباع كطفلة في سوق نخاسة الكهول يُقال لها "هذا الشرع..!" و..و... إلخ.. هكذا يدفعهن دفعاً المجتمع الذكوري بمؤسساته إلى جرائم أخلاقية وجنائية يصل عنفها لما وصلت له هذه القاتلة، ثم نتسلى نحن / المجرمون الحقيقيون بعدها بسردها في مجالسنا ومقاهينا، ونكيل الشتائم في مواقع التواصل الاجتماعي، لنثبت مدى براءتنا نحن ولأي درجة نحن صالحون لا طالحون!!
وبصدق؛ توقعتُ ما حكته قاتلة الطفل أحمد ولا أدافع أبداً عنها، فجريمتها لا تُغتفر مهما كانت الأسباب ويجب مُعاقبتها، لكن ألا يمكن أن نتعلم من جريمتها كمجتمع؟! ألا يمكن أن نتعظ لنتلافى الجرائم التي من الممكن أن نقرأها غداً، فجميعنا مشتركون في هذه الجريمة البشعة؟! نحن المجتمع الذي لا نعترف بالمطلقة إلا كخاطئة!! نحن المجتمع بمؤسساته القضائية والحقوقية والاجتماعية التي أهملت حاجة طفل صغير لحضانة أمٍ تطالب بها لثلاث سنوات، ولم يعرها اهتماماً لأنها أيضاً امرأة! علينا أن نعترف من المسؤول عن هذه الجريمة بسن أنظمة وقوانين حقيقية لا متروكة لمزاجية القائمين عليها وذكوريتهم، وإلا فسنقرأ غيرها كما قرأنا سابقاتها! ونعرف لأي درجة نحن صالحون!