في منتصف عام 1423هـ أوفدني معالي وزير العدل مع زميلين عزيزين إلى جمهورية مصر العربية؛ للاطلاع على تطبيقات السجل العقاري في أرض الكنانة، وكان من ضمن برنامج الوفد زيارة المحكمة الدستورية في منطقة المعادي على الضفة الشرقية لنهر النيل.
لقد رأينا محكمة جديدة لم تفتتح إلا قبل سنتين فقط من زيارتنا، وفيها من معالم العمارة الفرعونية الأصيلة ما يتعانق مع فن العمارة والهندسة الحديثة، فهي أشبه ما تكون بقصور السلاطين من حيث: فخامة البناء، وسعة القاعات، وجمالها، وروعة تصميم البهو الفريد.
وافقت زيارتنا وقت الإجازة القضائية للمحكمة، فلم نلتق برئيس المحكمة ولا بأعضاء الهيئة القضائية، بل التقينا بسيادة المستشار رئيس هيئة المفوَّضين فيها، فأطْلَعَنا على: نظام المحكمة، وتاريخها، واختصاصاتها، وإحصائيات عملها.
وفي منتصف عام 1426هـ التقيت بسعادة رئيس المحكمة الدستورية الكويتية على هامش أحد المؤتمرات التحكيمية في شرم الشيخ، فكان للوفد السعودي معه لقاء حافل بالفوائد في مجال الاختصاص.
وعندما تحريت عن عدد الدول العربية التي تأخذ بالقضاء الدستوري وجدتها ثلاث عشرة دولة فقط، والأغرب في هذه المجموعة أنها تحوي دولاً متقدمة في الجانب القانوني، ودولاً أقل توجهاً في هذا الجانب، وهذه المجموعة الرائدة هي: جميع الدول العربية في قارة أفريقيا، إضافة إلى لبنان وفلسطين من بلاد الشام، والعراق والكويت والبحرين من دول الخليج، وبلاد اليمن السعيد.
وليس من بين هذه الدول من هو في مثل قدرات المملكة العربية السعودية المادية، ولا كلها في مثل إمكاناتها البشرية والعلمية، ومع ذلك: فقد سبقتنا إليه أرض الكنانة بأكثر من ثلاثين عاماً، وتأخرنا عن اللحاق بكل هذا الركب الرائد في جانبِ أهمِّ سلطةٍ من سلطات الدول (السلطة القضائية).
إن المحكمة الدستورية - بالنسبة للسلطة القضائية - درة تاجها وواسطة عقدها، وهي أعلى هيئة قضائية في جميع دول العالم، وليست درجةً عليا من درجات التقاضي؛ فهي لا تُعنى بنظر القضايا السابق الحكم فيها لدى المحاكم الابتدائية والاستئناف، كما أنها ليست جهة تدقيق لما يصدر من المحاكم العليا أو محاكم النقض.
إن المحاكم الدستورية تختص دون غيرها بالنظر في الأمور التالية:-
1- الفصل في دستورية القوانين والأنظمة التي يُقدح فيها بمخالفتها الدستور العام للدولة أو النظام الأساس للحكم، ومن حقها: الرقابة على جميع الأنظمة والقوانين واللوائح، وجزءٌ من هذا التخصص داخل في اختصاص المحكمة العليا السعودية بنص المادة (11) من نظام القضاء.
2- تفسير النصوص القانونية عند الاختلاف فيما تعنيه، أو فيما يدخل فيها، أو ما يخرج عنها؛ لما قد يعتري تلك النصوص من غموضٍ أثناء التطبيق من أي مصلحة حكومية؛ بحكم اختصار صياغة تلك النصوص وعموم دلالتها؛ خصوصاً: ما يتعرض منها لحقوق وواجبات واختصاصات سلطات الدولة الثلاث (القضائية، التنفيذية، التشريعية).
3- الفصل في مسائل تنازع وتدافع الاختصاص بين الجهات القضائية والإدارية ذات الاختصاص القضائي، وكذا الفصل في النزاع بشأن تنفيذ الأحكام والقرارات المتعارضة تعارضاً لا مجال معه للجمع بين مدلولاتها، وهذا الاختصاص مسندٌ - في بلادنا - لِلجنةٍ في المجلس الأعلى للقضاء؛ بحكم المادة (27) من نظام القضاء.
إن الهدف من إنشاء المحاكم الدستورية في دول العالم يتلخص في الآتي:-
أولاً؛ دعم توجه الدولة إلى تيسير وحماية كافة الحقوق لأفراد المجتمع: مواطنين، ومقيمين، وزائرين؛ بحيث لا يُنتهك أيٌ منها بما يخالف النظام الأساس للحكم أو ما يسمى: الدستور.
ثانياً؛ مساعدة الجهات ذات العلاقة بتلك الحقوق في توضيح أي غموض يكتنف ما لديها من تعليمات وأنظمة؛ وإزالة كل ما يعترض طريق أي دائرة حكومية نحو تحقيق مصالح العامة.
ثالثاً؛ مما نصت عليه بعض النظم الخاصة بالمحاكم الدستورية: أن للحكومة الاستعانة بالمحكمة في إجازة النظم والقوانين الجديدة قبل اعتمادها؛ حتى لا تفاجأ الحكومات بإلغاء قوانينها لعدم توافقها مع الدستور العام، فينشأ من تطبيقاتها المعيبة مسؤوليات تعويضية قد ترهق كاهلها؛ خصوصاً: مع ضعف تأهيل الجهات التشريعية والتنظيمية فيها.
رابعاً؛ مما نصت عليه بعض النظم الخاصة بالمحاكم الدستورية: أن من مهام المحكمة البت في دعاوى المخالفات والطعون الانتخابية لأعضاء السلطة التشريعية؛ كمجالس الشعب والأمة والبرلمانات.
من المناسب أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة المشرفة على إعداد أو تدقيق القانون السعودي (التجاري، الأحوال الشخصية، الجزائي، العمالي) قبل اعتماده من القيادة العليا. ومتى اكتمل عقد المحكمة الدستورية السعودية فيحسن أن يوكل إليها - إضافة إلى ما تقدم - إجازة المبادئ القضائية الموكولة إلى المحكمة العليا بحسب المادة (12) من نظام القضاء؛ لمناسبتها لمهام المحاكم الدستورية؛ بحكم اختصاصها بالفصل في سلامة القوانين والأنظمة؛ والمبادئ القضائية المعتمدة في الفصل في القضايا أقرب ما تكون إلى القوانين، واختزال هذا الاختصاص من المحكمة العليا وكذا سابقه من المجلس الأعلى للقضاء إنما هو من باب الجمع بين المتماثلات، ولتفريغ تلكما الجهتين مما يُعييهمَا احتماله من بين الاختصاصات المنوطة بهما، وإن محكمة تجمع في اختصاصها كل هذه المهام الجليلة لخليقة بأن تكون المحكمة الدستورية الأولى في العالم.
ومما تتميز به المحاكم الدستورية أمورٌ منها:-
1- أنها هيئة مستقلة بذاتها، لا سلطان للمجلس الأعلى للقضاء في الدولة عليها، وتقوم الجمعية العمومية للمحكمة نفسها بجميع مهام المجلس تجاه أعضائها عند اللزوم؛ غير أنه لا فرق بين أعضاء المحكمة الدستورية وسائر القضاة من حيث الحقوق والواجبات، ولا من حيث: أحكام الرد، والتنحي، والمنع من نظر القضايا، والتأديب.
2- أنها ليست مقيدة بجهةٍ معينة تحيل إليها ما هو داخل في اختصاصها، بل للمحكمة أن تنظر في دستورية أي نظام من تلقاء نفسها، ولها أن تستقبل من الدعاوى ما يتعرض لأي اختصاصٍ من اختصاصها؛ سواءٌ: من الأفراد، أو من الدوائر الحكومية، أو من المؤسسات والشركات العامة والخاصة.
3- أنه ليس من الضروري أن تحصل المرافعة أمامها في جميع القضايا، بل لها الحكم في القضية بناء على ما يُقدم لها من مذكرات.
4- أن جميع أحكام المحكمة نهائية واجبة النفاذ قطعاً وبلا تأخير؛ سواءٌ من سلطات الدولة أو من الأفراد.