هذا الشاب كان يشتم أمه الأرملة مراراً، فشكاهُ أحدُ جيرانه إلى قاضي البلدة، فقرر القاضي جلده في إحدى ساحات السوق؛ ووافق ساعة تنفيذ الحكم خروج المحافظ- وكان يسمى قديماً (أمير البلدة)- فطلب إلى الشرطة أن يحضروا الشاب إلى مقر الإمارة بعد الانتهاء من جلده، ليزيده صاعاً آخر.

هذا الشاب كان كلما شتم أمه، دعت له بالهداية؛ ولم يحدث أن دعت عليه أبدا.. استمر الشاب في عقوقه، واستمرت الأم في الدعاء له، فكلما أطلق لسانه بالسباب، أطلقت لسانها بالتوسل إلى الله ليهديه لها، وكلما رفع يديه عليها، رفعت يديها إلى السماء تدعو بأن يصلحه الله لها.

ربطتني بهذا الشاب معرفة أيام المدرسة، استمرت حتى أمسى كهلاً يعيش بمفرده، فقد ماتت أمه وهي راضية عنه كل الرضا، بعد أن اعتذر إليها وقبلت اعتذاره، فوهب بقية شبابه في خدمتها ورعايتها والإحسان إليها أيما إحسان، فكان يقبل رأسها كل صباح ومساء، ويضع اللقمة في فيها بيده وهي تتبسم، وتزيد له في الدعاء، وكان يغسل لها ملابسها، ويمشط شعرها، ويوضئها للصلاة، ويصنع لها البخور، فتقول له: كفى بني، فيقول لها: استغفري لي ربي لعله يرحمني ويتوب علي ويرزقني الذرية الصالحة، فاستمرت تدعو له حتى يوم وفاتها، فأدخلها في قبرها، وأخذ يبكي ويبكي، ثم رحل عن مدينته، ولا يعود إلا لزيارة قبر أمه فقط.

تزوج، أنجب أبناءً، تقدم في السن، ماتت زوجته، مات أبناؤه، فقضى بقية حياته وحيداً، يجول المساجد في المدن والقرى والأرياف يدعو الناس صغيراً وكبيراً لبر الوالدين، أنفق ماله ووقته في بر أمه بالصدقات والدعاء لها؛ وكنت كلما جمعني الله به حدثني عن أمه الغالية الحنون باكياً بحرقةٍ وندم وحسرة حتى تبتل لحيته البيضاء وهو يقول: أسأل الله أن يجمعني بأمي في الدار الآخرة.

بلغني اليوم أنه توفي؛ أسأل الله أن يرحمه ويغفر لنا وله.

كتبت هذا حينما رأيت البارحة رجلاً كان ينصح شاباً شتم أمه أمام الناس، فقال له الرجل: تعال يا ابني أنصحك لله، فرد الشاب: وفرها لنفسك، فقال الرجل: إن الله يقول: "ولا تقل لهما أف ولا.." قاطعه الشاب: أعلم أعلم.. وهل قالوا لك إنني جاهل؟!

أخشى أن تموت أمه وهو مايزال يظن أنه ليس بجاهل.. فيا أيها الآباء ادعوا لأبنائكم، لا تدعوا عليهم، لعل الله يصلحهم لكم ولأنفسهم.