عندما نتوهم مجتمع الفضيلة، فعلينا أن نؤمن أن أفراد هذا المجتمع ملائكة لا بشر، والبشر عندما يتنكفون عن طبيعتهم، فيحيون في كنف وهم الفضيلة فإنهم يعطلون الاعتراف بمشاكلهم، بل يقفون أمام الجرائم شبه مكتوفي الأيدي، يتفاعلون معها برهة من الزمن بعاطفتهم، ثم يولون هرباً من وقعها ليتدثروا خلف خباء الوهم الكبير المدعو "الفضيلة".
متطلبات وعينا ببشريتنا تتطلب الإفاقة أولاً من الوهم الذي إن لم ننكر بسببه جرائم الاعتداء ضد الأطفال: الجسدي، والنفسي، والجنسي، فإننا به نقف موقفا متخاذلاً منها على كافة المستويات المتطلبة صدقاً في مواجهة أسبابها، ورغبة حقيقية في معالجتها وإيجاد الحلول الصارمة التي تحفظ أرواح الأطفال ونفسياتهم من الأمراض أو الانحراف أو الهلاك.
وليس أدمى للقلب باستمرار الوهم إلا الصدمة من وحشية الجرائم المرتكبة ضد الأطفال، ولعل ذكر بعضها يشرح الأسباب ويكشفها، وهي على سبيل المثال:
1- الطفلة غصون 9سنوات: تم تعذيبها وقتلها بيد والدها وزوجته بعد انتقالها لحضانة والدها بسنتين، قصة تعذيبها تدمي الأفئدة ابتداءً بضربها، مروراً بحرقها في أجزاء متفرقة من جسدها، وانتهاءً بمحاولة دهسها، حتى توفيت بسبب الاعتداءات المتكررة على جسدها النحيل.
2- الطفلة شرعا 11 سنة قتلت بالتعذيب ولفظت أنفاسها وهي معلقة في أحد نوافذ المنزل على يد والدها وزوجته بدعوى تأديبها، أمام شقيقها ناصر7 سنوات، الذي أعيد بعد التحقيق معه لذات البيت الذي قتلت فيه أخته، جدّة شرعا لوالدتها قدمت 9 بلاغات للشرطة تطالب بحمايتها من تعذيب والدها لها، فرفض المسؤولون التجاوب معها، بل إن أحد الضباط ـ كما نُشر حينها ـ هدد بسجنها في حال قدمت بلاغاً آخر.
3- الطفلة أريج 8 سنوات، قتلت بالتعذيب من والدها وزوجته التي كانت تسخن أداة الكي وتسلمها لوالدها ليكويها في مناطق حساسة في جسدها، أخذها والدها بموجب حكم قضائي من المحكمة، وبعد 3 أشهر من انتقالها لوالدها قتلت، أما السبب الذي لم يخجل الأب الظالم من ذكره فهو "أنها لا تطيعه ولا تلبس العباية" وهي طفلة الثماني سنوات!
4- الأطفال الثلاثة: سهام 6 سنوات، رائد أربع سنوات، ولميس خمسة أشهر، قام والدهم بقتلهم بسكين بوحشية صارخة، انتقاماً من والدتهم التي طالبت بحضانتهم كثيراً دون جدوى.
وتأتي بشاعة مقتل الطفل أحمد أخيراً ذي الأربع سنوات لتنبئ عن كارثة حقوقية تستنطق العدل بضرورة إحقاق الحق ودرء الطغيان الآثم.
هتك حقوق الأطفال يسبقه بالضرورة هتك حقوق الأمهات، فللأم علاقة بطفلها لا تنفصل منذ أن اتحدت به وحملته في أحشائها، وانتزاع ابن من أمه انتهاك صارخ لحق الطفولة والأمومة.. لا أعلم- حقيقة- دليلاً يثبت حق الأب المطلق في حضانة أبنائه في أي عمر، فكلها اجتهادات فقهاء لا تلزمنا، إذ هم مجرد أشخاص اجتهدوا في زمانهم، أخطؤوا أم أصابوا فالمصلحة اليوم تقتضي نقض أحكامهم الماضية، والملاحظ للحالات المذكورة يرى أن الأب مشترك في العنف ضد الطفل، بينما لا يمكن أن تشترك الأم بقتل طفلها أو ممارسة عنف ضده، بل يستحيل ذلك، حتى وإن ادُعِي أنها مصابة بالمرض النفسي؛ تلك الحجة المكرورة لإخراج الآباء من تحمل وزر جرائم قتلهم لأبنائهم.
التهديد الآخر لحقوق الطفل والأم هو ظاهرة "الأم البديلة" التي يقوم بها الآباء بلا رقيب من ضمير ولا خشية من قانون، سواء استخدم ذلك من واقع ممارسة تضييع الحقوق بتزوير الأم مزاجياً وبالمجاهرة في وسائل الإعلام كما فعل والد الطفل القتيل أحمد، أو بواسطة التزوير في أوراق ثبوتية كالقصة التي ذكرتها "الوطن" لرجل غيّر اسم ابنته بعد أن طلق أمها ونسبها لزوجته الأخرى، مغيباً بذلك أثر الأم عن ابنتها، وأثر البنت عن أمها، وهي جريمة استمرت 50 عاماً قبل أن تصل الأم لابنتها وتلتقي بها قبل موتها!
تغييب فقه المصالح الذي هو غاية الشرع ومقصده، أوقعنا في الخلط بين تحقيق أصول الدين، واتباع آراء الفقهاء التي لا تلزمنا لمجرد تغير المصلحة، فكيف وهي تفوت أحد هذه الأصول بمفسدة واضحة؛ هي تضييع نفوس أطفال لاحول لهم ولا قوة، بوهبها لأبيهم، ليبيعها إن أراد لأمهم، وإن أراد ألقى بحملها على غريبة تنتهك براءتها وضعفها، ويا للمفارقة؛ ففي شرعة تقاليدنا تحرم الأم من حضانة أبنائها بمزاجية ذكورية بحتة، وفي الغرب تقوم الدنيا إذا افترق الزوجان، فتعقد المحاكمات، وتتحرك مؤسسات رعاية الطفولة للمطالبة بتوفير الوضع الآمن والصالح للطفل والتحقق منه، فمن يطبق شرع الله الذي هو الغاية من الخلق؟!
لقد آن الأوان لإخراج مدونة أسرية قانونية شاملة، وإنشاء محكمة متخصصة للأسرة، يخصص قسم منها للنظر في أمور الحضانة، ترتبط بمؤسسات رعاية الطفولة، تنسق وتتابع وتتحرى الاطمئنان على أوضاع الأطفال بعد كل حالة طلاق، وتتحقق من توافر الأمان النفسي والمادي والاجتماعي لهم، وهي خطوة أولية مفترضة لتطوير القضاء الذي ننشده جميعاً.
توقيع المملكة على وثيقة حقوق الطفل هو حدث جوهري نتحرى بتحقيق بنوده انتهاء عصر امتلاك الآباء لبنيهم، لكن الفجوة مازالت كبيرة بين المصادقة على الاتفاقية والالتزام الفعلي والقانوني بها، وهو التحدي الحقيقي لوزارة العدل التي نأمل منها تجسير الفجوة على وجه السرعة بتفعيل بنود الوثيقة عاجلاً في مدونة الأسرة، لأن الوضع لا يحتمل مزيداً من هدر الوقت، فأمانة الأرواح تقف بين دقائق الزمن وثوانيه.