هل تستطيع اليوم أن تحصي قنوات الردح المذهبي في الفضاء العربي ما بين تقابلية السنة والشيعة؟ وبالطبع تحتاج إلى التفرغ الزمني لتحليل وإحصاء هذا الفراغ الفضائي، وبالتأكيد فقد قيل في مجرد العامين الأخيرين على أستديوهات هذه القنوات عشرات أضعاف ما قيل أو كتب في كل العصور والقرون منذ أن دون التاريخ جذور هذه التقابلية المذهبية. هؤلاء من الطرفين يبذرون فتنة هائلة ويؤسسون لساحات قتال سيكتوي بنارها أبناء الجيل القادم، لأنهم وصلوا في تأجيج العداء إلى نقطة اللاعودة. وللأسف الشديد، فإن هؤلاء لم يفهموا من تقنية العصر وثورة الاتصال الهائلة غير حناجر الكلام التي تنضح بكل قواميس الشتم والتكفير، ولك أن تعلم أن قنوات الأقلية الشيعية في العالم الإسلامي تقترب من ضعف قنوات الأكثرية المقابلة. وللأسف مرة أخرى فإن الغائب الأبرز في ثنايا حفلات الشتم الفضائي ليس إلا الحضارة الفارسية العريقة بكل ما تختزنه من الفنون والآداب، وبدلاً من تقديم وجه إيران الحضاري وعمقها وإرثها التاريخي فإن هذه القنوات لا تظهر منه سوى أسطوانة العداء وكأنها تتحدث عن حضارة وشعب قادم من أدغال غابة بدائية. وكلا الطرفين من متطرفي الفضائيات في المذهبين يتحدثان عن بعضهما البعض واهمين أن حناجر الكلام ستمسح الآخر المقابل من سبورة الوجود الإنساني. هما يجهلان تماماً أن حقائق التاريخ لم تمسح من قبل فصيلاً أو مذهباً ولم تلغ من الوجود طائفة ولم تغير معتقدات أقلية أو أكثرية. هما يجهلان فوق ذلك أن كل جملة في كتب التاريخ وهما يأخذانها حجة للجدل والبرهان تنسفها جملة أو رواية نقيضة مقابلة من ذات الكتب، لأن كل تاريخنا المدون في كتب التراث يحمل روايتين متناقضتين عن كل حادثة. هما يجهلان فوق ذلك أنهما يستدعيان ويسترجعان معارك وقصصاً نامت منذ ألف وأربعمئة سنة وذهبت ونامت تلك الحوادث والآثار بما لها وعليها، مثلما يجهلان أن القرآن الكريم يورد الفصل في قوله تعالى (تلك أمة قد خلت....) الآية. هذا الإصرار المريض على حفلات الشتم وسهرات الفضاء إنما هو جهل بحقائق التاريخ وتناقضاته وصور أحداثه المدونة برؤى تقابلية متناقضة.