أكتب هذا الأسبوع من الصين، حيث ينبهر الزائر من التغيرات السريعة في هذا البلد الذي استطاع خلال فترة وجيزة أن يتحول من اقتصاد صغير نامٍ إلى ماردٍ اقتصادي تجاوز جميع الدول الأوروبية وأصبح قاب قوسين من تجاوز اليابان كثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
ومن التغيرات التي يلاحظها الزائر فور وصوله إلى الصين، حتى لو كان زائراً متردداً عليها، هو الارتفاع المستمر في الإقبال على السيارات الفارهة، والسلع الكمالية، والتحف والأعمال الفنية، مما يدل على ارتفاع دخل المستهلك الصيني، أو على الأقل شريحة كبيرة منه.
فعلى سبيل المثال، طالما اعتزّ الصينيون بالخط الجميل وقدّروه، وهم يتفقون مع العرب في ذلك. ولكن هذا الاعتزاز والتقدير بلغ حداً غير مسبوق هذا الأسبوع حين بيعت لوحة خطية في مزاد فني بمبلغ (437) مليون يوان (نحو 240 مليون ريال)، وهي لوحة تُنسب إلى Huang Tingjian وهو خطاط مشهور في التاريخ الصيني، إلا أن نسبتها إليه محل نقاش، وهذا المبلغ الذي بيعت به اللوحة سعر قياسي للوحات الصينية، إذ إن أعلى رقم وصلت إليه لوحة خطية من قبلُ لم يتجاوز (230) مليون يوان.
فعلى الرغم من الركود في أسواق التحف الفنية عالمياً، إلا أنه يبدو أن الصين – كما يقال – ترقص على نغمات مختلفة عن بقية العالم، فهي تحقق أرقاماً قياسية في تلك الأسواق. وحسب تقرير لمؤسسة فرنسية متخصصة Artprice.com فإن مبيعات تلك الأسواق في الصين ارتفعت بنسبة 25% خلال عام 2009، في حين تراجعت في الدولتين الرائدتين في هذا المجال: الولايات المتحدة وبريطانيا، وأصبحت الصين هذا العام ثالث دولة من حيث حجم المبيعات بعدهما.
وذلك عائد جزئياً إلى أن النمو الاقتصادي فيها لم يتباطأ إلا قليلاً، على الرغم من الأزمة المالية العالمية. فقد استطاعت الصين أن تحافظ على معدل نمو مرتفع، حوالي 9%، مقارنة بالتراجع الحاد في نمو معظم دول العالم هذه الأيام. والسعيد منها من حصل على أي نمو اقتصادي، حتى لو كان 1% أو 2%.
ومما يزيد الأمر حيرة، أن صادرات الصين انخفضت بنسبة 25% تقريباً، مما يتوقع معه أن ينخفض حجم اقتصادها بنسبة كبيرة، ولكن الصين تغلبت على ذلك، ونفذت ما أوصت به مجموعة العشرين عن طريق تحفيز الاستهلاك المحلي للتعويض عن نقص الصادرات، ومثل هذا التحول من التصدير إلى الاستهلاك المحلي يأخذ عادة بعض الوقت لتحقيقه، ولكن الصين تمكنت من القيام به بسهولة نسبية. وذلك إنجاز في حد ذاته.
وعلى الرغم من الاعتزاز والفخر اللذين يعبر عنهما المسؤولون والمواطن العادي بهذه الإنجازات الاقتصادية، فإن الكثير من الخبراء يحذرون من تبعات هذا النمو السريع، وأولها التضخم. فقد نشرت الصحف الصينية على صفحاتها الأولى هذا الأسبوع أرقام التضخم عن شهر مايو وهي تنذر بالخطر، خاصة أن التضخم طال مواد غذائية رئيسية ارتفعت أسعارها بنسبة أكثر من 100% خلال أشهر قليلة، مما دفع الحكومة إلى اتخاذ خطوات سريعة للحد من تأثير المضاربات التي تقوم بها بعض الصناديق الاستثمارية المتخصصة في ذلك، ومن الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة مراقبة الأسعار، وزيادة المعروض من السلع، ووضع عقوبات قاسية على المضاربين الذين يخالفون القواعد التي تحكم صناديق الاستثمار.
ولا تتوقف الآثار السلبية للنمو السريع على التضخم، بل امتدت لتصل إلى تخريب البيئة من قبل المصانع المشغولة بمضاعفة الأرباح عن حماية البيئة، وإلى الغش والتلويث المتعمد، حتى في المواد الغذائية المخصصة للأطفال. ووصلت الرغبة في تحقيق المكاسب السريعة إلى مسؤولين كبار، كما سبق أن فصلت في مقال آخر. وفي هذا الأسبوع، نشرت الصحف الصينية خبراً عن سياسية معروفة ذات شعبية عالية، هي عمدة مدينة Zhongshan في منطقة جواندونج في جنوب البلاد، وكانت ضمن أفضل عشرة عمد في عام 2009 في الصين بأسرها نظراً لما قامت به من أعمال كبيرة في تطوير مدينتها، أما الآن فقد تم اعتقالها ووُجّهت إليها تهم بارتكات عدد من الجرائم الاقتصادية، مثل الاتجار غير المشروع في سوق الأسهم من خلال استخدام معلومات داخلية، ويُعتقد أنها أول عمدة سيدة يتم التحقيق معها بمثل هذه التهم الاقتصادية.
وبالإضافة إلى الاعتقالات والمحاكمات والعقوبات القاسية، تقوم الحكومة بتنظيم دروس وحلقات نقاشية مخصصة لمحاربة الفساد، ألزمت كبار المسؤولين في الحكومة والحزب بحضورها، والمشاركة فيها، وشمل ذلك موظفي المحاكم والمشتريات الحكومية والأمن العام وإدارات التفتيش والمتابعة في الدوائر الحكومية.