لم يكن الانفجار الشعبي العربي في الدول التي نرى ما يحدث فيها يوميا على الشاشات إلا نتيجة حتمية لسنوات قهر طويلة عاشتها شعوبٌ أراد لها من تولوا زمام السلطة ألا تكون شعوباً حيّة لكنها انتفضت لأن الجذور لم تقتلع.
تكاد تتشابه الحالات في كل الدول شهدت وتشهد البراكين الشعبية مع اختلافات في جزئيات صغيرة. حزب واحد يسيطر على الحكم وزعيم أبدي جاء بانقلاب، ورسّخ نظامه أمنيا وعسكريا، ثم ترك أفراد أسرته وأقرباءه ورجالاتهم يمدون نفوذهم إلى كل شيء في الدولة خاصة الاقتصاد، فتضخمت الأموال لدى الأسرة الجمهورية أو الجماهيرية الحاكمة إلى أرقام بليونية مذهلة، فيما المواطنون يعانون الأمرين في بلد غني بخيرات ليست لهم، ليهاجر الكثير منهم إلى دول الخليج وأوروبا وأمريكا بحثا عن الرزق. وتخيل الزعماء أن هذا الوضع سيمتد إلى ما لا نهاية، من غير أن يمروا على صفحات التاريخ ليعرفوا أنه لا يوجد نظام دكتاتوري نشأ إلا وتهاوى لاحقا بضغط شعب يتوق للتحرر منه. وربما عرفوا تلك الحقيقة بيدَ أنهم تجاهلوها لأن كل واحد منهم يرى أنه مختلف، ولديه قناعة بأن ما يحدث في بلد آخر من غليان شعبي لا ينطبق عليه فشعبه يكاد "يعبده" كما تصور له الحاشية التي يعتمد عليها كليا، وهنا الطامة الكبرى، فوجود عازل بين الحاكم والشعب هو بداية نهاية نظامه، لأن الشعب سيتطلع إلى الديمقراطية التي تقود إلى حكم يحترم صوته وخياراته. حكم هو النقيض من الحالة الديكتاتورية التي تهيمن بقبضة أمنية تبطش بمن يبدي رأيا لا يؤيد ممارسات النظام.
النخب الحاكمة في الدول العربية الملتهبة ليست مستعدة للقبول بالديمقراطية الحقيقية أو تهيئة أجوائها لأنها تفضحها وتفضح من يوالونها من أعضاء الحزب الواحد الذي يتولى أعضاؤه أهم المناصب القيادية. وتخدع تلك الأنظمة نفسها وغيرها بالحديث عن ديموقراطيتها، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تعني أن قائد الثورة برغم أنه لا يمتلك منصبا ليستقيل منه - طبقا لقوله – يتصرف هو وأولاده بسياسة الدولة وخيراتها. ولا تعني أن تملأ صور الزعيم وتماثيله كل مكان في الدولة، أو أن يهدد قائد جاء للحكم بانقلاب بحرب أهلية إن لم يستمر في الحكم، ويعلن عدم تزحزحه عن كرسيٍّ تربع عليه دهراً إلا بانتخابات ديمقراطية!
ومثلما عوّدت الأنظمة الناس على الثقافة الدكتاتورية التي رُفضت أخيرا لأنها لم تعد مقبولة شعبياً وعالمياً، فإن الناس أنفسهم قادرين على التعود على الثقافة الديمقراطية من خلال مجتمع مدني يصنع فيه الشعب قراراته ويمتلك خياراته.