للمرة المئة بعد الألف تفشل الدبلوماسية العربية في توجيه ملفاتها المصيرية لصالحها. ليومنا هذا لا توجد لدى الدول العربية خطة واضحة المعالم واستراتيجية محكمة الخطوات لمواجهة المخاطر المحدقة بها، داخلياً كانت أو خارجياً.
في قريتنا الكونية 22 دولة عربية، انقسمت إحداها ليزيد عددها اليوم إلى 23 دولة، تعاني معظمها من المصير المشترك والتقهقر اللافت للأنظار. منها 14 دولة ما زالت تعيش في أحضان مجموعة الدول النامية و9 دول تغُّط في سبات عميق داخل دهاليز نادي الفقراء. ومنها 13 دولة تعيش خارج إطار النظام العالمي الجديد، و5 دول تتعلق بخيوط النجاة من الثورات التي سلبت احترام حكوماتها المتعاقبة، بينما تقف الدول العربية الأخرى لتراقب نتائجها من بعيد، بين دولة مشجعة قلقة على مستقبلها المظلم أو مناهضة رافضة لمسار تياراتها العشوائية.
إلى جانب انكفائها المزمن وغيابها عن الساحة الدولية تفتقر الدول العربية إلى موهبة الدبلوماسية التي لا تكتسب، بل تولد مع الإنسان وتصقل بالعلم وتترعرع بالممارسة وتتميز بالدهاء.
الخلل في اختيار الدبلوماسي العربي تفشى وأصبح المرشح عالة على مهام عمله المهم، وغير مؤهل للعمل الدبلوماسي، فهو لا يتقن لغة الدولة التي سيقضي مدته فيها، مما يجعله لقمة سائغة في أفواه الأعداء، ووصمة عار على جبين الأصدقاء.
بعد الحرب العالمية الأولى التي انتصر فيها الحلفاء على ألمانيا؛ أصرَّ قائد أركان التحالف الجنرال الفرنسي "فرديناند فوش" على توقيع وثيقة الانتصار في مقطورته الرابضة على نهر "السين" الذي تحتضنه مدينة باريس المتلألئة بأنوار النصـر، وذلك إمعاناً في إذلال الجنرالات الألمان المهزومين.
كانت وثيقة النصر جزءاً لا يتجزأ من تقارب شؤون وشجون الدبلوماسية الأوروبية والأمريكية، حيث تم إعدادها من قبل قادة الجيوش في كلتا القارتين، وجرى تنقيحها شخصياً من قبل الرئيس الدبلوماسي الأمريكي الديموقراطي وأستاذ العلوم السياسية "وودرو ويلسون". كانت نشوة الانتصار الحافز الأكبر للرئيس "ويلسون" في سعيه إلى تعديل المسار الأمريكي الحاقد على أوروبا بسبب احتلالها السابق لمعظم أجزاء أمريكا، فكان أول الزعماء الذين توافدوا على فرنسا للمشاركة في مؤتمر باريس للسلام في عام 1919.
استمر المؤتمر ستة أشهر وشارك فيه آلاف الدبلوماسيين من مختلف بقاع الأرض في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والقانونية والفنية إلى جانب جنرالات الحرب. خلال المؤتمر غدت باريس عروس العالم، ومركز الثقل الدولي لمتخذي القرارات المصيرية التي أصبحت محط أنظار شعوب الأرض كافة، وأدت لاحقاً إلى تغيير خريطة العالم.
خلال المؤتمر بزغ فجر الدبلوماسية الدولية المتعطشة لرأب الصفوف، ومجابهة التحديات، وتوفير الملاذ الآمن لصّناع القرار، فأنشئت عصبة الأمم، وأسست منظمة العمل الدولية، وأبرمت اتفاقات تدويل خدمات البرق وفتح مجالات النقل. كان لدبلوماسية الاقتصاد والتجارة والقانون الدولي القرار النهائي والرأي الأخير في قضايا العالم، لتظهر في الأفق كلمات جديدة لم تسمع من قبل مثل التعددية الاقتصادية، ومبدأ الدولة الأولى بالرعاية، إلى جانب حق تقرير المصير، والمدنية والإمبريالية، والإرهاب الأحمر للمدّ الشيوعي.
لم يكن سهلاً على الطبيب والدبلوماسي المخضرم رئيس الوزراء الفرنسي في ذلك الوقت "جورج كليمانصو"، الذي ترعرع في بيئة أرستقراطية وأجاد اللغة الإنجليزية بمستوى أفضل من البريطانيين أنفسهم؛ أن يتفاوض مع نظيره البريطاني "لويد جورج" المتواضع في علمه ومعرفته، والمنحدر من عائلة بريطانية متوسطة المستوى. كما لم يكن متوقعاً من الرئيس الأمريكي الديموقراطي "وودرو ويسلون" الضليع في شؤون بلاده وقليل المعرفة بشؤون أوروبا أن يتفق مع مرئيات رئيس الوزراء الإيطالي "فيتوريو أورلاندو" الذي اعتنق شعـبه أمل الهجرة إلى أمريكا بحثاً عن الرزق والرفاه. إلا أن جميع الزعماء تفادوا الخوض في تاريخ ماضيهم الشائك، وأجمعوا على ضرورة التخطيط السليم لمستقبل دولهم، وتوفير الحلول الجذرية لرأب صدع خلافاتهم السياسية من خلال تعميق مصالحهم الاقتصادية المشتركة.
في ليلة من ليالي باريس الباردة خلال شهر يناير 1919 عقد الزعماء الدبلوماسيون الأربعة اجتماعهم السري المعتاد في منزل رئيس الوزراء الفرنسي "كليمانصو". أيقن هؤلاء الدبلوماسيون أن تقسيم العالم وإعادة ترسيم الحدود وتوزيع الثروات الطبيعية بين دول التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لن تثمر نتائجها؛ إلا إذا كانت هنالك سياسات اقتصادية خلاَّقة تجمع شمل شتات الشعوب المتناثرة، وتؤمن المستوى المعيشي المناسب لكل فرد، وتوثق عرى التعاون بين الدول لدرء مخاطر الحروب الدامية، وتوطين العلوم والمعرفة، وتسخير التنمية في خدمة الأجيال القادمة.
خلال مؤتمر باريس للسلام خرج زعماء الدول الدبلوماسيون الأربعة بتصور واضح وجليّ وقناعة متناهية بأن الأمن العالمي مرهون بالرفاه الاقتصـادي لشعـوب الأرض قاطبة، وأن الخلافات السياسية لن تربو، مهما تفاقمت بين الدول إلى مصاف الحروب الدامية المدمرة مثل الحرب العالمية الأولى.
بعد إسدال الستار على مؤتمر السلام في باريس وتتويجه بالتوقيع على معاهدة "فرساي" في منتصف عام 1919؛ تعانق الدبلوماسيون الأربعة في صالة المرايا بقصر "فرساي" الباريسي، وهتفوا لانتصارهم الذي حقق لاحقاً مكاسب صافية لشعوبهم.
الدبلوماسية العربية المفقودة والمنكفئة في وقتنا الراهن.. لن تنجح لأنها موهبة لا تكتسب.