قبل عدة أسابيع، جمعتني الظروف الصعبة التي استمرت لأكثر من 7 ساعات بسبب تأخر إقلاع طائرة الخطوط السعودية ـ كعادتها دائماً ـ بأحد الإخوة العرب، الذي سيُغادر السعودية بشكل نهائي بعد عقدين من العطاء والجهد والعمل في مجال التعليم العالي في إحدى الجامعات السعودية "المرموقة". ولأن صالات المطار شبه خالية من المسافرين ومن كل وسائل الترفيه والخدمات والمطاعم والمحلات؛ لم يكن أمامنا سوى الحديث، علّه يُنسينا ما حل بنا من ملل وضجر وتعب في هذا المطار "الدولي". تحدثنا في كل شيء تقريباً، في واقع العالم العربي الذي تجتاحه حمى الثورات والاحتجاجات بشكل غير مسبوق منذ عصر الاستقلال العربي قبل عقود طويلة، كما اختلفنا كثيراً بسبب التناقضات والمفارقات العجيبة التي سيطرت على الإعلام العربي بمختلف وسائله وأشكاله، سواء الرسمي أو الخاص، مما أفقده الكثير من مصداقيته وشفافيته ومهنيته، أيضاً طال نقاشنا حول نظرية المؤامرة التي يحلو للبعض أن يستدعيها كلما تعرض العالم العربي إلى بعض الصعوبات والتحديات، فهي أصبحت بمثابة "الشماعة" التي نُعلق عليها كل إخفاقاتنا ومشاكلنا، كذلك احتدم الجدل بيننا حول ماهية الصورة النمطية التي تحملها الذهنية العربية لكل ما هو قادم من خارج الأسوار العربية، رغم اعترافنا بأن كل ما لدينا من تقنية ووسائل معيشة وخدمات هو من نتاج ذلك الغرب المنحل سلوكياً والمتفسخ أخلاقياً! أما المرأة في العالم العربي فقد كان لها النصيب الأوفر من حديثنا، خاصة أن المرأة العربية من المحيط إلى الخليج مازالت تعيش في دائرة التهميش والإقصاء، بعيدةً عن المكانة الطبيعية واللائقة التي تستحقها كشريك أساسي في التنمية، لا مجرد تابع أو ملحق، نعم تختلف نسبة ذلك الإقصاء والتهميش من قطر عربي لآخر، لكنها في المجمل لم تنل حقوقها التي أقرتها الشرائع السماوية والقوانين الإنسانية. وكانت أزمة التعليم في العالم العربي من الأمور التي اتفقنا عليها، خاصة أننا نحن الاثنين نعمل في مجال التعليم، حيث أدى التدهور الكبير في مجال التعليم لتنامي الإخفاق العربي على مختلف الصعد. كان الحديث مطولاً وشيقاً، طال معظم التفاصيل العربية الراهنة، وحرصت ألا يُسدل الستار على هذا العرض البانورامي العربي المؤلم؛ دون أن أسأل هذا الإنسان العربي الرائع عن رأيه في المجتمع السعودي الذي عرفه لأكثر من عشرين عاماً؟ لم تكن إجابته سريعة وحاسمة كما هي عادته خلال تلك الساعات الطويلة، حيث بدا أكثر هدوءاً وسكينة، وشاب إيقاعه السريع بعض التردد والتلعثم، ولكنه في نهاية الأمر قال هذه الجملة بشيء من الحسم والثقة: "أخاف على المجتمع السعودي الذي أدين له بالكثير من العصبية". وقبل أن أطلب منه الاستطراد لتشخيص هذه الإشكالية الخطيرة التي تتغلغل في المجتمع السعودي؛ امتلأت صالة الانتظار بهذا النداء: تُعلن الخطوط السعودية عن إقلاع رحلتها..

أذكر أنني كتبت بعض ما دار بيني وبين ذلك الأكاديمي العربي النبيل على قصاصة صغيرة كما هي عادتي لتكون مشروعاً لمقال جديد، ولكنني كالعادة أيضاً أضعتها في زحمة تلك الأوراق والقصاصات والكتب التي تزدحم بها حقيبتي. قبل عدة أيام فقط، وجدت تلك القصاصة الرائعة.

نعم العصبية المقيتة بكل أشكالها وألوانها حينما تستوطن في مجتمع مّا فإنها تتسبب في تصدع وتفكك ذلك المجتمع، بل وتنخر في بنيته المجتمعية، ولعل التاريخ القديم والحديث يؤكد خطورة هذه المشكلة التي هي أشبه بآفة فتّاكة، تُهدد السلم المجتمعي وتُزعزع الوحدة الوطنية، والأمثلة على المجتمعات البعيدة والقريبة التي عانت من ويلات هذه الآفة اللعينة كثيرة جداً.

العصبية بأنواعها المختلفة، الطائفية والقبلية والفئوية والمناطقية والفكرية، هي أشبه بوقود مشتعل يحرق الأخضر واليابس، بل هي قنابل موقوتة تدمر كل شيء، وبمجرد أن تتفشى هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمع ما؛ يبدأ مسلسل الكوارث والاحتقانات في ذلك المجتمع، وتتنامى حالة الفرز المجتمعي الذي يؤدي إلى تكوين اصطفافات وتخندقات تُسهم في تشظي وتقسيم المجتمع الواحد. حينما تشعر كل طائفة أو قبيلة أو فئة بأنها مستهدفة من بعض مكونات المجتمع فإنها عادة تنكفئ على نفسها، وتتمترس خلف بعض السلوكيات والخصائص التي تنتجها ثقافة الأقلية المستهدفة، والمجتمع الذي تنتشر فيه هذه الظاهرة اللعينة يصبح عرضة للكثير من التهديدات والاختراقات والاحتقانات.

والمجتمع السعودي، كغيره من المجتمعات، لا يخلو من تمظهرات لهذه المسألة الخطيرة، وإن كانت ما تزال حتى الآن تحت السيطرة، سواء الرسمية أوالمجتمعية؛ ولكن انعكاسات وارتدادات ما يحدث حولنا من تداعيات خطيرة تُفرزها الثورات والاحتجاجات العربية هنا أو هناك قد تساهم في تنامي هذه الإشكالية. فقد أثبت الوضع العربي الراهن أن العالم العربي يُمثل بيئة خصبة لنمو مظاهر الاحتقان والتعصب والتمييز، مع إمكانية تصدير كل ذلك الوباء إلى غالبية المجتمعات على امتداد العالم العربي.

إن ما يحدث في أي مجتمع خاصة في العالم العربي، سيكون له صدى واسع هنا أوهناك، هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع المعاصر الذي جعل من العالم ـ كل العالم ـ قرية صغيرة، بل مجرد شاشة صغيرة لا تتجاوز بضع بوصات.

هذا الوطن الذي نفخر بالانتماء له، هذا الوطن الذي يرفل بالثراء والتاريخ والحضارة، بحاجة إلى مزيد من الوحدة والانتماء والتلاحم بين كل مكوناته، بعيداً عن مظاهر التعصب الطائفي والقبلي والفئوي والفكري، ولتكن مصادر التنوع والتعدد التي يتمتع بها المجتمع السعودي مظاهر للثراء والتكامل والجمال، لا أن تكون سبباً للتعصب والازدراء والتمييز.