تكتسب رموز التيارات شعبيتها غالباً من قدرتها على التعبير عن أفكار التيار والدفاع عنها وتحقيق طموحات التيار الاجتماعية والثقافية. هذه السلالم التي يصعد بها الرمز في مراتب التيار المتقدمة هي نفسها التي ينزل منها إذا خالفت طروحاته أفكار التيار ولو كان ذلك من باب التطوير، وتخلى عن الدفاع عنه ولو كان من باب العدل، أو عجز عن تحقيق طموحاته ولو ظل مخلصاً لأسسه الفكرية. والعقد الأخير يضرب لنا أمثلة كثيرة من الصاعدين والنازلين عبر هذه السلالم. والكثيرون ممن كانوا رموز التيار الإسلاموي في مرحلته الصحويّة أصبحوا محطّ نقد حاد أو انصراف جماعي من أتباع التيار بسبب توقفهم عن تغذية رمزيّتهم فيه بالأدوار التي أدمنها الأتباع، وتبدو هذه الحالة بشكل أقل وضوحاً في التيار الليبرالوي بسبب اختلاف تكوينه الاجتماعي عن التيار الإسلاموي وعدم وجود هيكل واضح للتيار يسهّل عملية تتبع صعود الرموز ونزولهم من حيث الشعبية. ولكنه بالتأكيد يمارس نفس السلوك مع رموزه لاسيما في مراحل احتدام الصراع عندما تكون المطالب المعلقة على عاتق الرمز أثقل والأدوار المنوطة به أكثر حسماً. ولعل رأياً في قضية أو نقداً في منهج أو موقفاً من واقع سياسي أو اجتماعي يكون شأناً كافياً ليبدأ الرمز الليبرالوي رحلة الصعود أو النزول فيما يشبه الوجدان الجمعيّ العام للتيار الليبرالوي.
قد يبدو كل ذلك بدهياً إذا استخلصناه من نظريات صناعة الرمز في علوم الاجتماع والنفس، ولكن في خضم الصراع المحتدم بدأ يتراءى في المجتمع سلم آخر يسرّع من صعود الرمز وبزوغ نجمه بالإضافة إلا السلالم المعتادة. والمثير للاهتمام والمحرض على المقارنة هو وجوده في التيارين معاً. هذا السلم هو الاطلاع على أفكار التيار الخصم بهدف تقويضه من الداخل ونقض دفاعاته وكشف طموحاته. يضرب لنا التيار الإسلاموي أمثلة لذلك من خلال رموزه الشابة التي متحت من القُلُب الفكرية لليبرالية ومرادفاتها الفكرية في العقل الجمعي كالعلمانية وغيرها مثلما يضرب لنا التيار الليبرالوي نفس المثال عندما يستخدم رموزه الشباب أدوات التيار الإسلاموي نفسها من حيث التأصيل الشرعيّ والقياس والاجتهاد لضرب التيار الإسلاموي في عمقه الفكريّ وتمهيد الطريق إما أمام نقدٍ ليبرالي للفكر الإسلامي أو تخريج إسلاميّ للطروحات الليبرالية الحديثة. في الحالتين، يقفز سهم الرمز إلى مراتب عليا في الهرم الشعبي للتيار إذا تضمنت طروحاته نقداً للتيار الخصم باستخدام أدوات الآخر النقدية بشكل غير معتاد في خطابات التيار مستخلصاً طرحه التياري من اطلاعٍ متباين في مستوى العمق على الجذر الفكري للتيار الآخر.
بغض النظر عن فاعلية ذلك، فإن الرمز الإسلامويّ الذي يضمّن طروحاته ما اعتاد المتابع أن يقرأه في طروحات الرمز الليبرالوي ثم يستخدمه لصالح تياره يتحول تدريجياً إلى الرمز الذي كشف السر وهتك الستر وفضح الخصم ورماه في مقتل، تماماً مثلما أن طروحات الرمز الليبرالوي المشتملة على أدوات شرعية في النقد تعد ذات أهمية كبرى في الصراع المرحليّ باعتبارها جسراً مهماً بين التيار الليبرالوي والمجتمع لاسيما وهو المتهم بالتغريب واستيراد الثقافة. ولا عزاء للرمز الإسلامويّ الذي انصب جهده التياري على تأصيل ما هو أصل وتأكيد ما هو مؤكد باستخدام أدواته المعتادة مقارنة بالرمز الذي بدأ يدبج طروحاته بدراسات أجنبية وشواهد من خارج حدود المدرسة التقليدية شرط أن يخرج بالنتائج المرجوة نفسها: وهي إدانة التيار الآخر. ولا عزاء أيضاً للرمز الليبرالوي الصادح بذات الخطاب المدبج بمفاهيم التيار المعروفة فيقع في فخ الرتابة والاعتياد عندما يتناول قضايا محلية معاصرة إزاء من يتناول نفس القضية بمنظور المخالفين والمعترضين، فيتتبع شواهد اختلافهم واعتراضهم ثم يأتيهم من حيث لا يحتسبون، ناقضاً حججهم بحجج من نفس المصدر، فيخلط الأوراق ويشتت الأتباع ويلقي بقنبلة من الشك وسط قلعة من اليقين.
ورغم أن صراع التيارات بدلاً من تنافسها هو شأن ضار بصحة المجتمع الفكرية والتنموية بطبيعة الحال إلا أن هذا النوع من التسلح بأسلحة الآخر له فوائده حتماً. ليس لأنه يحرض على الاطلاع والتعمق في أفكار الآخر فحسب بل لأنه يدفع الأتباع إلى التعمق في فهم تيارهم بدلاً من اعتناقه بشكل أعمى. وليس أقوى حافزاً لذلك من محاولة ردّ ذلك الدخيل الذي يهاجمهم بلسانهم ويرميهم من حصنهم ويتسلل إلى تيارهم مثل حصان طروادة. وهو كذلك يشجع على نقل الصراع إلى مستوى فكريّ ربما يكون في أسوأ حالاته أفضل من التنكيل الاجتماعي والتشهير الشخصاني. فالاطلاع على الجذور الفكرية للتيار الخصم يخلق لغة مشتركة في آخر المطاف يمكن أن تكون محرضة على الحوار يوماً ما.