إنّ المطالب التي ترفعها الشعوب ليست مجرّد كلام وشعارات عندما يكون أصحابها على استعداد لدفع حياتهم ثمناً لها. ولا يحقّ لأحد المزاودة - مبدئياً وإنسانياً - على من يدفعون حياتهم ثمناً لمواقفهم. الاتفاق مع هذه المواقف أو الاختلاف معها مسألة أخرى،فالبشر تجمعهم الأهداف لكنهم لا يفكّرون بنفس الطريقة.

والمواطنون السوريون عندما نزلوا إلى الشوارع عبّروا عن رفضهم وعن ثورتهم ضد عقود طويلة من القمع والاضطهاد، وتسلّط الأجهزة الأمنية عليهم وكمّ أنفاسهم وتنغيص عيشهم ومراقبة حركاتهم وسكناتهم، والتمييز بينهم في ميدان فرص العمل على أساس قربهم أو بعدهم من مركز السلطة وولائهم لها وانتمائهم الحزبي وليس على أساس كفاءاتهم.. وإلى آخر السلسلة الطويلة من الممارسات والمعايير المخلّة التي يعرفها الجميع.

فرصة ثمينة أخرى تضيع. وبعد أسابيع عديدة من الصمت خرج الرئيس السوري للحديث إلى بضع عشرات من ممثلي نظامه "المصفّقين"، وعبرهم إلى مواطنيه وللعالم. تأمّل كُثر من مؤيدي الرئيس بشار الأسد ومن معارضيه، من أصدقائه ومن خصومه، أن ينطق كلاماً واضحاً لا لبس ولا تورية فيه عن خطّة مشفوعة بقرارات فورية تستجيب للمطالب التي رفعها أبناء شعبه في الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعية. القادة لا يعيبهم الرضوخ لمطالب شعوبهم، بل يشرّفهم ذلك ويقوّيهم ويرفع من مقامهم.

السلطة في سورية "ابتلعت" على مدى العقود الماضية كل المؤسسات لخدمة مصالحها بما في ذلك الدولة نفسها، واعتبرت المجتمع ملكاً "شخصياً" لها وبالتالي تفعل فيه ما تشاء. وعلى أساس مثل هذا النهج قامت كتلة من أصحاب المصالح امتدت فروعها إلى الجسد الاجتماعي كلّه فانتشر الفساد والإفساد وتكوّنت "طائفة" المستفيدين.

هذه الحقائق كلّها يعرفها الرئيس الأسد ويعرف أنّها ولّدت هوّة حقيقية بين السوّاد الأعظم من الشعب "المهمّش"، مهما نطق الخطاب الإعلامي - وبالأصحّ الإعلاني- الرسمي باسمه وبين نخب السلطة والمتسلّقين عليها. وأصبح للفساد رموزه المكشوفة والمعروفة أكثر من نجوم السينما والرياضة. كان من الطبيعي أن ينفجر الغضب الشعبي عندما هبّت رياح مواتية من تونس ومصر. ومن المعيب فعلاً وضع انتفاضة الشعب السوري كلّها تحت عنوان المؤامرة الخارجية.

في إطار مثل هذا الوضع المختلّ وعلى أرضية المطالبة بالحريّة وبالكرامة وبالحرية تدور المعركة الحقيقية اليوم في سورية وليس على أساس نزاعات طائفية ، وأبناء الوطن السوري يدركون ذلك جيّدا بقرارة أنفسهم.هذا لا يمنع واقع أنه يتم توظيف المشاعر الطائفية كأداة للمحافظة على السلطة أو للوصول إليها. لكنها ليست، ولن تكون أبداً، ورقة وطنية. الوطن ليس ملكاً لأية طائفة. مواطنوه كلّهم هم أصحابه.

الرئيس السوري اختزل في خطابه الأخير كل الحراك الشعبي المتعاظم في سورية إلى مجرّد مؤامرة خارجية ومخرّبين ومأجورين ومطلوبين للعدالة بالآلاف. وهنا بالتحديد أضاع الفرصة "الثمينة" التي ربما أنها كانت ـ كما أعتقد شخصياً ـ لا تزال أمامه عبر الحديث إلى الشعب بلغة الصدق والصراحة وأنه فهمه وفهم همومه، وأنه يطلب "مساعدته" للخروج بالوطن من محنته وبانتهاء انتخابات الـ 99 بالمائة ولو كان ثمن ذلك "السلطة" نفسها. والخطوة الأولى كانت تتطلّب أكثر من إجراءات تجميلية وغير موثوق بها، والإعلان بصيغة الحاضر وليس المستقبل عن قرارات حاسمة يتيح الدستور للرئيس اتخاذها. كان كّثر يأملون ذلك حفاظاً على سلامة الوطن وخوفاً من المجهول.

نعم هناك حسابات دولية وإقليمية، ومن السذاجة تصوّر غير ذلك. وهناك عوامل كثيرة تكبح حتى اليوم - لحسن الحظ - مشروع أي تدخل عسكري خارجي مدمّر بطبيعته، ومرفوض من السواد الأعظم من السوريين بكل مشاربهم. والردّ الحقيقي الفاعل لن يكون سوى تعزيز أسس البيت الداخلي. ليس بالشعارات ولكن بالخيارات والقرارات الوطنية وليست السلطوية والأمنيّة.

الخطر المدمّر هو المضي في النهج الأمني القائم وما ينتجه من عنف وقتل. لن تستطيع أيّة سلطة مقاومة إرادة شعبها؛ هذا ما تقوله دروس التاريخ كلّها. المهم ألا تجرّ بسقوطها الوطن إلى هاوية لا قرار لها.