أميةٌ أفقيةٌ أن تحتفل بخريجي الثانوية العامة، وأميةٌ رأسيةٌ أن تحتفل بالعشرة الأوائلِ من الأمية الأفقية. فأنا من مدرسة ذلك الشيخ الأمي الذي بكى وسمع بكاءه جيلُنا. لكنه جيل لم يفهم معنى أن يبكيَ شيخٌ نخلة باسقة زرعها وهنا على وهن وسقاها دما ودموعا، ثم تهاوت نخلتُه بين فكي إحدى المعدات المسعورة أمام ناظره. جثم شيخنا على جذع نخلته المسجى على الأرض يحتضنه، يلثمه، ويغمره بكاءً ونحيباً بجسده النحيل وظهره الأحدب وقدميه المتشققتين، وبآخر دمعتين سقطتا يابستين. اعذروا شيخنا فقد كان يعيش قصة حب ووفاء وانتماء، فالعشق الذي تزرعه وترويه، ليس كالعشق الذي تقطف ثمراته في موسم الحصاد فقط.

مشكلة النجاح في مجتمعنا ومن منظورنا الثقافي هي أننا نقتل النجاح احتفاء ونغرقه احتفالا. فنعميه مبكرا بكثافة الأضواء حتى لم نعد نراه أو يرى نفسه في زحمة المصابيح المسلطة عليه. والنجاح لدينا فردي، أما الفشل فمؤسساتي، ولهذا، لا نعرف النجاح الحقيقي ولا نعرف متى وكيف نحتفل به.

مفهوم المناطق نسق إداري لتسهيل وتناغم عمل تلك المنظومة بما يكفل وصول وتفعيل الخدمات وبرامج التنمية لكل منطقة بكل شرايينها وأوردتها. لكن هذا النسق، لم يتوقف كثيراً عند البعد الاقتصادي، لتصبح كل منطقة من تلك المناطق الإدارية الثلاث عشرة ذات صبغة اقتصادية مختلفة ومتفردة نوعا ما عن بقية المناطق بما تملكه من موارد بشرية وموارد طبيعية. فظل تقسيم مناطق المملكة الثلاث عشرة تقسيما إداريا إلى حد بعيد، وهذا المفهوم نأى بالتخطيط المناطقي جانبا وحال دون التخطيط التنموي الاقتصادي بالمفهوم المتدرج من الصغير إلى الكبير لكل منطقة وصولا إلى الاقتصاد الأكبر في المملكة ككل. فالتخطيط المركزي لبرامج التنمية يستنسخ البرامج ولا يبتكرها، فوقع في خطأي التعميم والتكرار، دون الأخذ بعين الاعتبار فوارق الموارد الطبيعية والاقتصادية لكل منطقة. لا يمكن أن يستقيم مفهوم التنمية الاقتصادية بدون إعادة النظر في مفهوم المناطق وجعلها مناطق اقتصادية.

منطقة الجوف من منظور اقتصادي، هي منطقة زراعية أولا وثانيا وعاشرا. ومع ذلك لم يقدم صندوق التنمية الزراعية أو وزارة الزراعة ما يتكيف مع ظروف هذه المنطقة الزراعية ومزارعيها ما يخص نشاطاتها الزراعية، ولم يوجد في برامج مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني ما يستجيب لاحتياج المزارعين من برامج تأهيلية وتدريبية، ولم تكيف وزارة التجارة أو وزارة الشؤون البلدية والقروية نشاطاتها لطبيعة وموارد هذه المنطقة، ولم تقدم وزارة التربية والتعليم أو حتى جامعة الجوف ما يتكيف مع طبيعة المنطقة ومزارعيها.

هناك مدرستان زراعيتان في منطقة الجوف، الأولى مدرسة رأسمالية ذات مشروعات عملاقة، في سباق مع الزمن لإنتاج أكبر ما يمكن إنتاجه وتصديره على حساب كل شيء بما في ذلك المياه، مثلما استنزفت المياه من قبل في القصيم وفي وادي الدواسر والأحساء ونجران وغيرها. وهي تسخر رأسمالها، في سرقة عمال المزارع الصغيرة وبخس المزارعين حقهم.

المدرسة الزراعية الثانية في المنطقة، هي الزراعة التقليدية العشوائية، حيث إن المُزارع يجهل تماما الأساليب الحديثة للزراعة ويفتقر للوسائل والميكنة الحديثة والمعرفة بما يسمى الزراعة الذكية. ينفق على مزرعته أكثر مما يعود عليه منها، يعيش رومانسية الزراعة التقليدية فيزرع من كل نوع، وليس لديه المعرفة بالصناعة الزراعية والتجارة الزراعية والاستثمار الزراعي ويترافق كل هذا مع غياب تام للإرشاد الزراعي والخدمات الزراعية من قبل مديرية الزراعة.

ما هو المطلوب إذا؟ المطلوب بكل وضوح هو تبني سياسة الزراعة الذكية. لتقوم على أنقاض المدرستين الزراعيتين السائدتين. والزراعة الذكية ببساطة هي تبني أساليب زراعية حديثة تلك التي أصبحت محور اهتمام عالمي، تقوم على التقنية لإنتاج أكثر وعمالة أقل، واستبعاد كل المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه أو التي يصعب تسويقها بالزراعة المعدلة وراثيا والزراعة العضوية التي تشهد إقبالا عالميا.

مطلوب أن تكون الجوف منطقة زراعية حرة، على غرار المناطق التجارية الحرة، لا تخضع صادراتها ووارداتها للرسوم الجمركية وتتمتع بحرية تنقل عمال الفلاحة من خارج المملكة. ومطلوب أن تتحول المنطقة إلى منطقة أساسية للتصنيع الزراعي لتكون سلة غذاء المملكة. مطلوب تراخيص عالمية لتأسيس صناعة المعدات الزراعية والميكنة الزراعية الحديثة.

لكن كل ما سبق، لا قيمة له ما لم توجد هيئة عليا لمنطقة الجوف تتولى التخطيط الإستراتيجي الزراعي، الصناعي و الاستثماري بمفهوم اقتصادي تنموي مستقبلي للمنطقة. وتقوم بتفكيك المفهوم التقليدي للزراعة وتضع حداً للمفهوم الرأسمالي للزراعة واستنزاف المياه. حينها فقط يكون لشيخنا الأمي دور في التنمية، وحينها فقط يكون للاحتفال معنى وللاحتفاء قيمة.