منذ سنوات عرفني الصديق الدكتور سليمان الهتلان في إحدى زياراتي إلى دبي على الشاعر الإماراتي والدبلوماسي السابق محمد خليفة بن حاضر.. لتصبح الجلسة معه طقساً لا بد منه في كل زيارة إلى دبي. وبعد الاستقرار فيها استمر التواصل عبر جلسات حافلة بالأدب والإبداع وأحاديث عن تاريخ العرب وواقعهم، وعن ذكريات بعضها مع صديقنا المشترك الأديب الرقّي الراحل الدكتور عبدالسلام العجيلي.
توفي ابن حاضر منذ أيام في باريس قبل يوم من موعد إجراء عملية جراحية له، ليفتقد الكثير من أصدقائه محبته التي طالما غمرتهم حتى في غيابهم عنه.
في التجربة الشعرية للراحل ترتسم سيرته وهمومه ويومياته.. وتتداخل كلماته مع الإنسان والمكان برؤى تنبع من أعماقه عبر خيالات وصور ورموز تمزج الحلم بالواقع في مسارات يبحث من خلالها بلغة رصينة عن حالة مثالية يريدها. يتمنى للكل أن يستيقظ، فيرسمَ حلم الاستيقاظ بصيغة المفرد مخاطبا الأنثى:
(عودي، تعيدي ذكرياتي
وتعود نشوى أمسياتي
وتعود أيام الصِّبا
خضراً ترفّ على الحياةِ
عودي فإن جوانحي
ملّتْ معانقةَ السباتِ)
وإذ يُغرِق في الحلم أكثر فإنه يطلب من الأنثى المتخيلة ألا تحلم، لأن الحلم آلم دواخله المرهفة، فيقول في قصيدة لا تحلمي:
(أَوَ تحلمِين بعودةٍ.. لا تحلمي
ردِّي عليّ تكلّمي.. لا تندمي
إن الدَّمَ المهرَاقَ، فوق سناءِ آمالي دَمي
لا تحلمي بالصبح يشرقُ من مُحيَّا الأَنجُمِ!)
أما المكان فهو في مخيلة الشاعر محمد بن حاضر يأتي على أشكال عدة، فهو تارة ملهِماً يعني ولادة القصيدة والحياة، وتارة يمثل النهاية والموت.. ومن هذا التناقض يصنع الشاعر صورة يركبها في ضمن إطار فني يهطل حكمة ومحاكاة للحقيقة:
(على رمله الفضي فاضت قريحتي
فأدلت برؤيا للمكان من الأمسِ
تقارب أبناء الحياة على الثرى
فسيان فيهم ساكن القصر والرّمسِ)
لذلك، فإن التصاق الشاعر الراحل بالوطن، كان يرتكز على التصاقه بالواقع، وهو حين يكتب عن الوطن فإنما كان يكتب عن كل ما فيه من بشر وعادات وقيم وأمكنة.. حتى لتحسب أنه المتنبي الذي كان يعشق شعره، وهو يكتب عن التحولات الحضارية في وطنه.
(ما للرمالِ؟ بطاحها خضراءُ
أتنصَّلت من لونها الصحراءُ؟)
رحم الله الشاعر الراحل الذي لم يكن شاعرا فقط وإن كان مقلا في قصائده، بل كاتبا أيضا، يحلل الأحداث ويقرأ المستقبل في مقالاته المنشورة. ولأنه لم يعرف المجاملة أبداً، فإن صراحته أتعبته في بعض مراحل حياته.