أول ما يلفت النظر في سنغافورة تنوعها الثقافي والعرقي، وحرص حكومتها على حماية وتشجيع هذا التنوع، ومنع تحول سنغافورة إلى بلد ذي ثقافة واحدة. ويلاحظ الزائر العربي تواجد الإخوة السنغافوريين الحضارم، والذين لا يخفون اعتزازهم بأصولهم العربية.
ويحرص السنغافوريون الحضارم على توضيح أنهم ليسوا دخلاء على البلد، أو جالية أجنبية، أو مهاجرين جدداً، إذ كانوا متواجدين بقوة منذ تأسيس سنغافورة في عام 1819م من قبل الاستعمار البريطاني كمستعمرة منفصلة عن ماليزيا. وتجد الدليل على تواجدهم في سنغافورة منذ ذلك الحين، ففي أول خريطة لسنغافورة تجد توثيقاً للحي العربي فيها. وكان من سياسة البريطانيين إذ ذاك تشجيع التنوع العرقي في المستعمرة الجديدة. فمن جهة كانوا يهدفون إلى الاستفادة من أفضل ما تقدمه المنطقة من خبرات، لتدعيم الإمكانات المتواضعة للسكان الأصليين حينها، ومن جهة أخرى سعى الإنجليز إلى منع تركز مجموعة عرقية معينة، أوسيطرتها على المستعمرة الجديدة. ولذلك كان من الطبيعي أن يشجع الإنجليز هجرة حضارمة الشرق إلى سنغافورة للاستفادة من مهاراتهم التجارية والملاحية، وكانوا يسمونهم وقتها "فينيقيوا ماليزيا"، اعترافاً بتلك المهارات. وسعى مؤسس سنغافورة (ستامفورد رافلز) شخصياً لتشجيع الحضارم الموجودين في المناطق المجاورة على الهجرة إلى سنغافورة.
ولم يمض وقت طويل على إنشاء سنغافورة حتى كان التجار العرب يسيطرون على حركة الميناء فيها، وبالتالي على تجارتها، إذ تشير سجلات ميناء سنغافورة في نهاية عام 1835 إلى أن نحو نصف السفن في الميناء كانت مملوكة لهؤلاء التجار. واشتهر منهم عدد من الأسر التجارية الحضرمية من تلك الفترة مثل الجنيد والسقاف والجفري، وقد أتى معظمهم إلى سنغافورة من إندونيسيا، التي كانت الوجهة الرئيسية لهجرة الحضارم إلى الشرق.
وقد استفاد العرب بذكاء من المنافسة بين هولندا وبريطانيا في تلك الفترة. فالاستعمار البريطاني كان يحتاج إليهم في تأسيس سنغافورة كما أسلفت، ولذلك شجع عملهم وتجارتهم فيها. وفي الوقت نفسه؛ عندما أصدرت هولندا في عام 1818م قانوناً يقصر الملاحة في سواحل إندونيسيا على السفن التي تحمل أعلاماً هولندية على أن تكون مملوكة لسكان مستعمراتها؛ استطاع العرب الاستفادة من ذلك، لأن الكثيرين منهم كانت لهم إقامة في إندونيسيا، المستعمرة الهولندية الرئيسية في المنطقة، ويحملون لذلك التابعية الهولندية.
وبالإضافة إلى دور العرب في إنشاء سنغافورة وتجارة المنطقة، كان الحضارم أول من أسس حركة نقل حجاج شرق آسيا. فقبل القرن التاسع عشر كان عدد حجاج تلك المنطقة محدوداً، يقتصر في الغالب على هجرة عدد محدود من طلاب العلم للمجاورة في الحرم الشريف، وتلقي العلم على يد مشايخه، إذ كان وقتها أحد أهم مراكز العلم في العالم الإسلامي. وكان بعضهم يعودون بعد ذلك كعلماء ودعاة. أما الحجاج من غير العلماء وطلبة العلم والمجاورين فقد كان عددهم محدوداً، إذ تشير بعض المصادر إلى أنهم كانوا في حدود (2000) حاج في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت هناك أسباب عديدة لذلك، فبُعد المسافة، وتكلفة السفر، كانا عائقين رئيسيين، فضلاً عن أن الهولنديين كانوا متخوفين من التأثير السياسي للحج، وإمكانية أن يشجع النزعة الاستقلالية لدى سكان مستعمراتهم، ولذلك وضعوا عراقيل كثيرة أمام الراغبين في الحج للحد من أعدادهم، واستمر ذلك إلى القرن العشرين.
وبسبب هذه القيود على حجاج المستعمرات الهولندية، أدت سنغافورة ـ التي لم تكن تحت سيطرتهم ـ دوراً مهماً في تجاوز تلك القيود وتسهيل سفر الحجاج إلى الديار المقدسة. وخلال معظم القرن التاسع عشر سيطر العرب الحضارمة على حركة نقل حجاج الشرق، وأسسوا شركات كبرى، بمقاييس تلك الأيام، لنقل الحجاج والبضائع. ولكن المنافسة الغربية ـ خاصة البريطانية ـ تمكنت شيئاً فشيئاً من تحجيم دور العرب، حيث توفرت لديها إمكانيات أكبر في التمويل وبناء السفن العملاقة الجديدة القادرة على حمل أعداد أكبر من الحجاج، وخاضت تلك الشركات حرب أسعار شرسة مع التجار العرب ذوي الإمكانات المحدودة نسبياً، مما اضطر بعض التجار العرب إلى الدخول في اتفاقات مع شركات الملاحة الغربية لحماية ما تبقى من نصيبهم من سوق نقل الحجاج، ولكن الشركات الغربية ما لبثت أن سيطرت على السوق تماماً. وربما شكلت سنة 1919م نهاية النفوذ العربي الكبير فيها، حين وقّع كبير التجار العرب في سنغافورة السيد عمر السقاف اتفاقاً مع شركة الملاحة البريطانية (مانسفيلدز) يتعهد فيه بعدم نقل الحجاج، وبدلاً من ذلك أصبح وكيلاً لبيع تذاكر السفر على سفن الشركة البريطانية.
وهكذا بعد مرور نحو مئة عام من إنشاء سنغافورة تحولت الشركات العربية (الحضرمية) من سادة لحركة الملاحة إلى وكلاء للشركات الغربية، واضمحل دورهم التجاري.
وفي الوقت نفسه ومع تزايد الهجرات غير العربية إلى سنغافورة، وتوقف الهجرة العربية؛ تضاءلت نسبة العرب فيها بحيث لا تذكر. فبين سكان سنغافورة البالغ عددهم (3.5) ملايين نسمة، يشكل الصينيون اليوم 76% من إجمالي السكان، والملايو 14%، والهنود 8%. أما العرب فيُقدر عددهم بنحو عشرة آلاف شخص فقط، أي أقل من 1%.
ومع زيادة تجارة سنغافورة مع مجلس التعاون خاصة بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بينهما في عام 2008، ودخولها حيز النفاذ قريباً؛ فإن من الممكن أن يستعيد الإخوة السنغافوريون العرب شيئاً من دورهم التاريخي، إذا أحسنوا إدارة هذا التطور الهام والتوجه الجديد في اقتصاد سنغافورة وتجارتها المتنامية مع دول الخليج.