ليس صعبا علينا اليوم ملاحظة أن مجتمعنا السعودي يعاني الكثير من التشنج الناتج عن تراكم الأحداث المتسارعة من حوله. الأدلة أمامنا كثيرة.. يكفينا فقط النظر إلى ما تتناقله صحافتنا المحلية والفضائيات الإقليمية ومواقع الإنترنت والمدونات الشخصية التي تدور في فلكنا لنكتشف واقعنا. مظاهر التشنج واضحة في المفردات النابية والجارحة، والتهكم والصوت العالي، والسب والقذف والسخرية، التي أصبحت تستخدم بشكل واسع في الوسائل الإعلامية. مما يؤسف له اليوم خروج الكثيرين من مجتمعنا عن فضيلة "التسامح" و"التريث في إصدار الأحكام"، فينجر الكثير وراء خبر مبتور أو مدسوس لتبنى عليه استنتاجات لا تخدم أحداً سوى إشباع رغبة "أنا على حق وغيري على خطأ". المشكلة هنا أن هذا التشنج يتدحرجان مثل كرة الثلج، يجران معهما قضايا أخرى مدفونة أو نائمة، لتحدث تفاعلات جديدة لا يعلم نتائجها إلا الله.
من أمثلة القضايا التي تسببت في التشنج بين شرائح المجتمع قضية "قيادة المرأة للسيارة" التي جيشت أفراد المجتمع إلى فصيلين. وللأسف في جو سلبي كهذا لا بد لكل صاحب رأي أن يدلو بدلوه، ويشارك الآخرين اعتزازه برأيه أيا كان، وعلى أي وسيلة كانت، دون أي تقدير لمضامين أو لعواقب رأيه. حالنا اليوم لا تتحكم فيه الفضائيات والصحف فقط. فقد دخلت في اللعبة عناصر جديدة.. مدونات لا أول ولا آخر لها، فيس بوك، تويتر وغيرها. اليوم أصبح لكل مرتادي شبكة الإنترنت شبكة اجتماعية عبر الإنترنت، تنقل وبسرعة عالية جداً كل ما هو شاذ وخارج عن المألوف.
اليوم يتسابق الناس ليكونوا الأوائل في التقاط وتمرير كل شاذ وخارج عن المألوف، عبر الشبكات الاجتماعية. اليوم مقالة في صحيفة حول استئصال الفقر المدقع والجوع، أو تقليص معدلات الوفاة بين الأطفال، أو تحسين صحة الأم؛ لن تجتذب الكثير مثلما تجتذب مقالة عن "لحوم الحمير" أو "انتماء أهل الجنوب والشمال". ما أريد الوصول إليه أن مثل هذه الأخبار مجلبة للأحقاد والضغائن، وتؤثر في النفوس وتستثير كل ما هو كامن ونتن. هذه الأخبار غالباً ما تكون غير دقيقة وخارجة عن سياقها، إلا أن تلقى رواجاً وترحيباً من ثقافتنا الجديدة، التي تستسيغ تمريرها وتأجيجها لأغراض في نفوسنا. ثقافة المجتمع الجديدة هي محور الأزمة التي نعيشها.. طريقة فهمنا للحياة، وكيفية تنظيمها، وأسلوب العيش في هذه الدنيا التي طرأ عليها تغيير كثير، أخرجنا من إطارنا وقيمنا التي تميز بها مجتمعنا سنوات طويلة. ما نجنيه اليوم من ممارسة ثقافتنا يشوبه الكثير من الملاحظات التي تنخر سلوكنا، وطرق تفكيرنا وإدراكنا للأمور.
اهتمام المجتمع المتزايد بقضايا الإثارة أصبح جزءاً من ثقافتنا التي توهن ثقتنا بكل ما حولنا. أصبحنا اليوم نعيش أشكالاً من السلبيات التي لا نعي أنها سلبيات. لماذا؟ لأنها نابعة من ثقافة جديدة لا تعي من قيمنا الإسلامية إلا شكلها الخارجي. يكفي فقط النظر إلى الكم الهائل من الردود والتعليقات على مشاكلنا وقضايانا، التي يشارك بها القراء عبر الشبكة. ردود في مجملها لأناس قليلي الحيلة لا يملكون إلا مدارك متواضعة، ومفردات سطحية تفتقر إلى التهذيب.
في نظري المتواضع، وطالما أننا في معركة الإصلاح، علينا أن نركز على إصلاح تلك الجزئيات التي تختص بثقافة هذا المجتمع، والتي استهدفتها كثير من المتغيرات الاقتصادية العولمية، التي شوهت مجتمعنا عبر السنوات الماضية. كنا نتغنى في السابق بمفهوم "الأسرة القوية".. اليوم لا أعلم كيف هي الأسرة السعودية. كنا نتفاخر بالاهتمام بالجيران وتفقد أحوالهم.. اليوم نحن في واد وهم في واد. التراحم والتسامح بين أفراد المجتمع كان سمة من سمات مجتمعنا.. اليوم نعيش تعاسة نتيجة استيرادنا من الغرب مفاهيم وتقنيات لم نع مضامينها إلا مؤخراً.
لعل أولى خطوات الإصلاح تكون في المتخصصين من أبناء هذا الوطن لصناعة الاستراتيجيات التي يمكن أن تجعلنا أكثر قدرة على الدفاع عن هويتنا في مواجهة الهويات الدخيلة، التي تتراقص من حولنا وتجعلنا أكثر تشنجا وارتباكا. لدينا من المتخصصين اليوم في بلادنا من هو قادر على تشخيص الحالة الراهنة، وتقرير التوصيات اللازمة. الطريق لتحقيق أماني وتطلعات مجتمعنا ليست أبداً بسهولة كتابتها.. إنها طريق طويلة وشاقة، تتطلب منا جميعاً إدخال تعديلات بسيطة فيما نفعله كل يوم.. ولماذا نفعله بهذه الطريقة أو تلك؟ إنها مراجعة شاملة لطريقة تفكيرنا ولسلوكياتنا وتوجهاتنا، والطريقة التي ندرك بها ما يدور من حولنا.