فيما يسمى (ربيع الثورات العربية) تلك التي استهلت العام باندهاشات مست الشعوب العربية من البحر إلى البحر قبل أن تخفت كحالة نشوة، متحولة إلى واقع جالب لمخاوف جديدة، تستعيد الذاكرة ما وفرته الثورة الفرنسية التي انطلقت شرارتها الأولى في عام (1204هـ - 1789م) وكانت من أهم الأحداث ليس في تاريخ فرنسا فحسب بل في تاريخ أوروبا كلها بحروبها وثوراتها، من قاعدة نظرية للنهوض، قادت تلك المجتمعات نحو آفاق خلاقة مكنتها من الهيمنة على العالم، وهذا بالضبط ما حدث للأميركيين عقب حرب الشمال والجنوب. أي أنه في الجملة ثمة ما يمكن استخلاصه من تجارب الحياة للشروع في التغيير. هذا التغيير الذي يفترض منطق الأشياء ألا يتم بمعزل عن الإرث العلمي والعمق الحضاري والفكري لأيما مجتمع.
هنا نتذكر أن حرب تحرير الكويت عام 91 أفرزت شيئا من التفاؤل في حدوث تغيير ما، إن على مستوى التفكير، أو التعاطي بوعي مع مفاهيم الإنتاج والوعي بماهية الوطن، لكن الذي حدث طيلة أكثر من عقدين كان معاكسا تماما ومخيبا - في ظني - إذ تقاصت الثقافة الجادة، وأمعن المجتمع في الثقافة الاستهلاكية ، خاصة مع صعود تأثير القنوات الفضائية التي اندلعت بعيد حرب الخليج الثانية، وأفسح المجتمع مساحة هائلة من وقته للترفيهي والمتهافت من أنماط الحياة، التي ليس بمقدورها أن تأخذ المجتمع نحو قدر من الجدية والرصانة والتسامح والعلمية والإيمان الحقيقي والممارسة الفعلية الايجابية لمفاهيم التعدد والتنوع، التي أحوج ما تحتاجها المجتمعات النامية، فكان تهافت البرامج التلفزيونية، الذي يتجلى سلبيا في ظاهرة الاتصالات الهاتفية بالفضائيات التي لا تحمل في أغلبها إلا الركاكة والابتذال وكثيرا من السذاجة. أشياء كثيرة تفاقمت عقب حرب الخليج، وكانت بمثابة صدمة لكل من راهن على أن تلك الحرب كان يعول عليها أن تخلخل الوعي العام ليستوعب واقعه ويدرك موقعه بين شعوب العالم. والعجيب الغريب أن كل ذلك حدث مع تراجع اقتصادي هائل على مستوى دخل الفرد بما يحيلنا إلى أطروحة الإنتاج والمسألة التبادلية الجدلية بينها وبين ما تفرزه من وعي وحس.
وعندما حلت كارثة الحادي عشر من سبتمبر ذهب كثير من المراقبين إلى حتمية حدوث التغيير. لكن وبقدر ما حدث من تجاذب بين النخب والانتلجنسيا بتياراتها كافة لم يكن هناك - في نظري - تحديداً للبوصلة، فوقع خلط كبير وجدل وصل لحد (الغوغائية)، والاستغراق في (قضايا انصرافية) يراها البعض مستمرة منذ عقود طويلة، لكنها دائما ما تستعاد بوجوه ومسميات جديدة.
ما يجعل المطالبة تشتد حيال المؤسسات الثقافية لتحديث آليات عملها بما يوقد حوارا حضاريا ليس همه تقسيم المجتمع وتصنيف أفراده بل تنويره وصرفه عن (القضايا الانصرافية).