إذا نضجت وتشبعت فاكتب قصيرا سهلا ممتنعا لتكن كتابتك على طريقة الفقرات القصيرة بدون الإنشاء اللفظي المكرر السجعي الذي لا يزيد الألفاظ المعنى عمقا بل يزيد القارئ غبشا وضلالا، ومنه جاء المثل إذا تكلمت فأسمع، وإذا مشيت فأسرع، وإذا أطعمت فأشبع، وإذا ضربت فأوجع، وإذا حاججت فأصقع، وإذا كتبت فأبدع، وإذا أنشدت فأمتع، ولا ينبئك مثل خبير.. وعن هذه الطريقة من الكتابة حدثتني ابنتي عفراء من الشمال الأمريكي أنها الطريقة التي ابتدعها أرنست همنجواي الروائي الأمريكي، ولعل رواية المريض الإنجليزي توضح هذه الطريقة؛ الدخول للموضوع وتصويره بكلمات قليلة، ولكنها صادقة واضحة، ولعل أعظم البلاغة هي في قلة الكلمات ودقة التعبير وصدق النقل، أعني الحقيقة كما هي، ويقولون عن الكاتب الفذ هو الذي ينقل مشاعر القراء بصدق لا أكثر؛ فيعجبون به لأنه كان صدى مشاعرهم. وأحيانا كما في القرآن تزدحم المعاني وتتشابك في كلمة واحدة، ويسبح الخيال إلى حزمة من الأفكار والتصورات. تأمل معي جواب موسى للرب حين سأله عن العصا وما تلك بيمينك يا موسى؟ إنها العصا.. ولكن تأمل الجواب أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى! ما هي هذه المآرب؟ إنها كلمة تفتح المعنى على بوابات لانهاية لها قد تكون العصا لحفر أو لضرب أو لإسقاط ثمر، إنها أداة لاستخدامات شتى، ولكن لنتأمل الفرق بين محاولة حصر أهم الوظائف أو إطلاق الكلمة كي تكون نبعا للمعاني؟ هنا نرى هذه الطريقة الرائعة من التعبير، وهذا هو منهج القرآن عموما، فليس من إنشاء وسيل من الألفاظ لا يزيد المعنى معنى، وكنا في كلية الطب قد تعودنا على تحديد الكلمات والمفاهيم بطريقة شبه رياضية فحاولت عبثا أن أحصر المعاني في كلمات قليلة وأفكار محدودة ولم تكن مهمة سهلة.. وأنا أقرأ الكثير من الكتب لاكتشاف هذه اللذة الخالصة من المعاني والأفكار في جمل سهلة ممتنعة قصيرة واضحة أو ما ذكرته ابنتي عفراء عن همنجواي في قصته (وداعا أيها السلاح) التي مُثِّلت فيلما تروي مأساته مع ممرضة أكبر منه سنا فضلت عليه طبيبا أكبر سنا وأكثر مالا فلم تنجح العلاقة؛ فأرادت العودة إليه؛ فكسر كل شيء، وذهب إلى الكتابة حتى أبدع من طوفان الحرمان، وخرج بهذه الطريقة الفذة في الكتابة، ثم تزوج أربع مرات بعد أن فقد حبه الأول، وإذ لم يجده فقد آثر الانتحار فختم حياته منتحرا على طريقة غريبة لا تنقصه الشهرة ولا المال، وهذا هو جدل الإنسان.

وأذكر أنني قرأت عن صحفي كان في أشد الندم حين قال لقد كنت بجنب همنجواي قبل أن ينتحر بدقائق فكيف فوَّت على نفسي مقابلة تاريخية أسجل فيها آخر كلمات الرجل قبل أن يودع الحياة في قمة مجده مختارا لا ينقصه شيء.. وقصة انتحار المبدعين ليست يتيمة فقد انتحر أيضا ستيفان تسفايج وهو من قمم الروائيين الأوروبيين كما نعرف من بيروت انتحار الحاوي اللبناني مع دخول شارون بيروت، ولعل السبب هو قاع اليأس المطبق الذي يخلق حالة نفسية تقول لم تعد الحياة تساوي نقيرا..

انتحر همنجواي وانتحر تسفايج في الأرجنتين ومعه زوجته أيضا في نفس المآل والمصير. والخلاصة التي انتهي إليها ليست قصص الانتحار بل الإبداع الكتابي بعد النضج المعرفي، حيث تفيض القوافي على اللسان شعرا عذبا، ومن الريشة مداد يرسم أعظم اللوحات السريالية، ومن الكف تنحت أعظم التماثيل، ومن الروح تنطلق أجمل القطع الموسيقية؛ فهذا هو جدل الإنسان حيث القفص يغرد، ومن محبس المعتمد بن عباد خرج شعر تاريخي لا ينسى، قرأت بعضه في مدفنه في أغمات بجنب مراكش المغربية.