قبل ثلاثة عقود تقريباً كانت بعض القضايا الاجتماعية تعتبر سرية وممنوعا تداولها علنياً, لا عبر الصحافة ولا عبر أي وسيلة إعلامية أخرى، وغير وارد التصريح الرسمي عن حجمها وعددها ومواقعها. والحقيقة كنت أتضايق أحياناً من هذا الأسلوب، وكم كلفني الأمر من الدخول في حوارات ساخنة مع بعض المسؤولين أفقدتني علاقتي بهم. ولقد خسرتهم وخسرت قضيتي معهم في ذلك الوقت، ولم أكن الوحيد الذي كان يطالب بالشفافية والإعلان رسمياً عن بعض القضايا الاجتماعية التي قد تتحول إلى ظواهر، ومشاركة المجتمع وبعض مؤسسات المجتمع بما فيها الجامعات والمؤسسات التعليمية والبحثية لطرح الحلول وبدائلها، ومن تلك القضايا الاجتماعية التي كان ممنوعا الإعلان عنها أو تناولها علناً. انتشار المخدرات وانتشار مرض الإيدز والإرهاب والمعاقين وحقوق الإنسان. مواضيع عامة وطبيعية وهي ليست حكراً على المملكة ومطروحة للنقاش في معظم دول العالم النامي والمتقدم مع اختلاف أسلوب وطريقة الطرح ودرجة حساسية المتعاملين معه. ومع تطور الزمن وتطور ثقافة المتعاملين مع هذه القضايا ومع كبر حجم هذه القضايا لدرجة يصعب تجاهلها وأصبح واقعاً فرض على الدولة التعامل معه وإعداد الخطط والميزانيات وتهيئة جميع الإمكانات للتعامل معها. وتشكر الدولة على جهودها الكبيرة في محاربة المخدرات وجهودها الأقل في معالجة الإدمان من جميع أنواع المخدرات، وأقصد بالأقل أنه لا يتساوى فيها الطلب للعلاج أمام العرض من مرافق معالجة الإدمان الحكومية، وقوائم الانتظار كبيرة لدى مستشفيات الأمل لمعالجة الإدمان وأخشى ارتفاع نسب المدمنين مع ارتفاع نسب المدخنين وعندها ستكون المعالجة صعبة جداً. وكم طالبت بضرورة التوسع في إنشاء مستشفيات معالجة الإدمان وتعميم الخدمة على جميع مناطق المملكة، لأن الإدمان ليس مقتصراً على المناطق الكبيرة، وترحيل المدمنين من المناطق الصغيرة إلى المدن الكبيرة فيه صعوبة كبيرة وعلى وجه الخصوص للنساء والفتيات. أما الإيدز فالحمد لله أنه بدأ الاهتمام بالتعامل معه كواقع، إلا أن مستوى المعالجة ليس على قدر المشكلة وحجمها في الوقت الذي أنشأت فيه بعض الدول الخليجية الصغيرة مراكز متخصصة لمعالجة مرضى الإيدز ورعايتهم منزلياً وفي مراكز العمل وفي المراكز الصحية وخصصت ميزانيات ضخمة لنشر الوعي الثقافي بالمرض على جميع المستويات.
ولا أود أن أعود إلى المشكلات القديمة التي أخذت الدولة طريقها في التعامل معها لكنني سأطرح اليوم بعض القضايا القديمة في الفعل والحديثة في الإشهار عنها والمطلوب وضع الخطط لمعالجتها. وأعتقد أن من مصادر المعلومات التي تؤكد بعض هذه القضايا هي جمعية حقوق الإنسان والمؤسسات التعليمية. ومن هذه القضايا التحرش الجنسي للأطفال وقضية المثليين من الرجال والنساء، وهي قضية ذكرت في القرآن الكريم، فالقضية انتشرت في المدارس النظامية والخاصة وفي الجامعات الحكومية والخاصة وهي مستترة في العلاقة وفي المعالجة ولم تظهر على العلن لمناقشتها والبحث عن أسبابها ووسائل وطرق معالجتها ولا تزال في إطار الاعتراف والإنكار من بعض المعنيين وما زالت في إطار العيب والفضيحة وخارجة عن إطار العادات والتقاليد في ضمها للنقاش وإيجاد الحلول لمعالجتها. وهي موجودة في جميع أنحاء العالم وهناك برامج وخطط لمعالجتها في بعض الدول الإسلامية، وهناك قوانين ونظم في بعض الدول المتقدمة وللأسف تحفظ لهؤلاء الشاذين حقوقهم، ونحن كمسلمين يحرم ديننا هذه العلاقة وعقابها كبير. والمطلوب التعامل مع القضية كواقع يحتاج إلى معالجة. أما القضايا الحديثة التي تزداد نسبها في مجتمعنا فهي التحرش الجنسي من قبل الآباء والإخوان لبناتهم وأخواتهم وتطور الأمر إلى ممارسة الفاحشة، ولم تكن هذه المسألة معروفة نتيجة خوف الأبناء من إفشاء هذه الأسرار نتيجة تهديد الآباء والإخوان ولولا جمعية حقوق الإنسان السعودية ولولا جهود الدولة في فتح باب الاستماع لشكاوى الأبناء ولولا زيادة ثقافة حقوق الأبناء لما ظهرت القضية إلى المناقشة العامة وتتطلب مزيداً من اهتمام الجهات المتخصصة في معالجة هذه القضية بجميع الوسائل. أما عقوق الوالدين ورغم الأمر الإلهي بالحرص على رضا الوالدين ومعاملتهم معاملة حسنة، إلا أن الواقع الذي لا يصدقه الإنسان السوي أن هناك من عقوق الوالدين ما يدفعنا إلى طرحها كقضية للنقاش نبحث عن الأسباب ووسائل وطرق المعالجة. فمن عقوق الوالدين إهمالهم وعدم رعايتهم وأحياناً عدم الاعتراف بهم كآباء في المجتمع وأحياناً يصل الأمر إلى التعدي عليهم بالضرب أو الحبس في غرف مغلقة أو إخراجهم من منازلهم إلى الشوارع. وفي غياب دور المسنين وقلة عددها تزداد القضية وتصبح كارثة اجتماعية. وكما قلت إنها مسألة لا يصدقها الإنسان العاقل المؤمن السوي لكنها موجودة على أرض الواقع.
أما الكارثة التي يعاني منها المجتمع وغير المعلنة وهي قنبلة موقوتة أخشى من آثارها السلبية على مجتمعنا فهي الاكتئاب النفسي، وهي قضية ارتفعت نسبتها بدرجة عالية جداً وهي بين الشباب والكبار نساء ورجالا وتزداد نسبها لدى المتقاعدين صغار السن وعلى وجه الخصوص العسكريون بدرجاتهم الذين يحالون للتقاعد مبكراً دون بدائل عمل أو تأهيل لبدائل عمل أخرى، وترتفع حالة الاكتئاب لدى العاطلين عن العمل وأعدادهم بمئات الآلاف والمطلقات والمطلقين والعوانس والأرامل وضحايا سوق الأسهم، والمنازل مليئة بحالات الاكتئاب التي لم تهتم الأجهزة المعنية بمعالجتها أو بدراستها والتعرف على حقيقتها وآثارها السلبية وخطورتها على أمن واستقرار المجتمع. إن قلة عدد المراكز المتخصصة لمعالجة الاكتئاب وندرة المتخصصين بهذا المرض وعدم اعتراف المرضى وذويهم بهذا المرض إما خوفاً من العيب ونظرة المجتمع وتحاشياً من الفضيحة أو هروباً من تحمل المسؤولية في تكلفة المعالجة، ويتوقع بعض المتابعين لحالات الاكتئاب أن 40% من السعوديين يعانون من حالات اكتئاب ولكن بدرجات، وللأسف لا يوجد من يدرس هذه الحالات وأسبابها. فعلى سبيل المثال أن أزمة الأسهم وخسارة المتعاملين فيها تسببت في مئات الآلاف من حالات الاكتئاب، وأزمة وكارثة سيول جدة أيضاً كان لها أثر كبير في ارتفاع نسبة الاكتئاب. هذا بالإضافة إلى حالات القهر والظلم والفساد الإداري والمالي والفقر والبطالة وغيرها من الأسباب.
إن طرحي اليوم يمثل واقعاً نعيشه في بلادنا يرفض البعض الاعتراف به، ويقلل البعض الآخر من أهميته، ويهمل الآخرون قضاياً مجتمعنا ويذهبون للتبرع بمئات الملايين من الدولارات لمعالجة أزمات مجتمعات أخرى.
إن بلادنا في أمس الحاجة إلى مستشفيات متخصصة ومراكز علاج متقدمة وإلى مراكز بحث اجتماعية وصحية. إن من يعتقد أن بناء الطرق والمباني الشاهقة وإنشاء جامعات الخمس نجوم وتشييد القصور والمصانع والمزارع هي الواجهة للمدنية والتقدم يكون قد أخطأ في حق المجتمع. فالرقي والتقدم أساسه الإنسان.
إن القضايا الاجتماعية التي طرحتها هي واقع أتمنى أن نضع الخطط لمعالجتها مبكراً، قبل أن تتحول إلى ظواهر، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة.