في معرض حديثه عن فوز حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان بفترة رئاسية جديدة؛ يقول أحد الوعاظ: إن فوز حزب العدالة والتنمية بشارة للمؤمنين.. لأن تولي أمثاله يمنع أن يمسك زمام الحكم علماني يفسد الأخلاق وينكس الفطرة، فيما يعلق آخر بأن من شأن هذا الفوز أن يعيد الحكم الإسلامي إلى الصدارة، في الوقت الذي يجزع فيه كثير من هؤلاء الوعاظ من كل حركة تحديثية في مجتمعهم، يرون فوز أردوغان وحزبه لفترة رئاسية ثالثة فتحاً إسلامياً مبيناً. يبدو من كل ذلك أن نوعاً من الخلط يحدث في أذهان كثير من الوعاظ حين يقومون بقراءة الواقع السياسي العام في المنطقة، يظهر من خلال اختلاط المعايير لديهم في تقييم كل ما يحدث من خلال ازدواج في موقفهم من قضايا الداخل السعودي؛ ومن قضايا العالم المحيط بنا. الابتهاج بانتصار حزب العدالة من قبل كثير من التيارات الحركية هو نوع من ادعاء الانتصار والتشبث به، فيما أن الواقع يؤكد أن الحزب لا يشترك مع الحركات الإسلامية التي عرفتها المنطقة العربية في شيء، ودائماً ما يؤكد الحزب بأنه ليس حزبا إسلامياً ولكنه ذو توجهات إسلامية، يؤمن برأسمالية السوق، ويسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي، وملتزم بصيانة وحفظ المبادئ التركية، بينما كان من أبرز عوامل فشل مختلف حركات الإسلام السياسي أنها زلت بعيدة عن استيعاب الواقع، وعجزت عن مسايرته، مما أوجد غربة كبرى بينها وبين الشارع في مختلف بلدان العالم العربي. حين استطاع حزب العدالة والتنمية أن يجدد أدواته وتصوراته المعرفية؛ استطاع أن يكتسح بقية الأحزاب، وأن يحظى بقبول واسع في الشارع التركي والإسلامي، وكاد الحزب يقع في أخطاء يسيرة في تعامله مع الثورات العربية ـ كموقفه من ليبيا ـ إلا أنه وعاد واستوعب الخطأ مبكراً، فليس الوقوف المطلق ضد كل تدخل أجنبي من شأنه أن يكسب الحزب جماهيرية وقبولاً في العالم الإسلامي. لكن حزب العدالة والتنمية يبدو أنه غير قابل للتكرار في العالم الإسلامي، فالحزب الذي خرج من رحم مناخ سياسي وثقافي علماني؛ استطاع أن يقدم توازناً فعلياً بين قيمه الإسلامية وبين واقعه السياسي الحديث، ولم يصدر عن الحزب ما يشير إلى أي موقف عدائي يجعله ضد الواقع السياسي التركي الذي انطلق منه، رغم كثير من الأخطاء التي وقعت فيها العلمانية التركية حينما أرادت أن تواصل حفظ العلمانية وتطبيقها من خلال الجيش، والأفكار في كل الحضارات لا يمكن حمايتها وتمريرها والمحافظة عليها عسكرياً مهما بلغت قوة العسكر وتحكمهم.
إذن فالحزب ينطلق من قيم الحرية والعدالة والتنمية والشراكة مع العالم، وصون الإرث التركي، والانفتاح على العالم، ومواصلة العمل على تحقيق انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وكلها قيم وأفكار تتعارض تماماً مع الحركات والتوجهات الإسلامية التقليدية. هل يمكن لأحد أن يتخيل أن رجب طيب أردوغان تؤرقه قضية الاختلاط مثلاً، أو أنه سيقود مشروعاً في البرلمان التركي لمنع استيراد العباءات التي تلبس على الكتف، أو لمنع تدريس طلاب الصف الأول الابتدائي من قبل معلمات؟ سوف تتحول مثل هذه الأفكار إلى نكتة مملة لا تقل عن ملل الدراما التركية الطويلة، إنما كيف يمكن لمن اختزلوا إسلامهم وتدينهم في مثل تلك القضايا أن يفكروا في إقامة حضارة أو قوة، كالتي تمثلها تركيا اليوم؟ وما استيعابهم للحضارة أصلاً؟ حين افتتحت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تناولتها كتابات بعض المثقفين العرب على أنها إشارة إلى توجه سعودي جاد وحقيقي لدخول عالم المعرفة، واقتصاديات المعرفة الحديثة، ومحاولة من المملكة لاستقطاب العقول البشرية وإيجاد مركز للإنتاج العلمي.. في هذا الوقت كان كثير من الوعاظ المحليين لدينا لا يبصرون في الجامعة سوى ما يسمونه بالاختلاط ووجود باحثين وباحثات جنباً إلى جنب، وظهر من تصريحاتهم وآرائهم ما جعلهم بحق أكبر دليل على أن تدينهم الذي ينطقلون منه تدين خائف، وغير قادر على استيعاب ذاته أولاً قبل أن يستوعب العالم. عليهم أن يدركوا إذن أن فوز أردوغان ليس لهم على الإطلاق، إنه فوز لنسخة مدنية ومعتدلة من الإسلام الذي يستميت من أجل قيم الحرية والمساواة والنماء، لا من أجل اجتهاداته الفقهية. ألطف ما في التعليق السابق هو أن هذا الفوز (بشرى) وكأن رجب طيب أردوغان قد وعدهم بأن من ضمن برنامجه الانتخابي أن ترتدي لميس حجاباً، وأن يتم منع الموسيقى الصاخبة من شوارع إسطنبول. إن ما يحدث من هذا الابتهاج بفوز حزب العدالة والتنمية ليس سوى محاولة لادعاء أن ما يدعون إليه هو الصواب الذي يعود إليه العالم، بينما الواقع يؤكد أنهم مأخوذون بالعنوان، وإلا فهم أول خصوم لنموذج الإسلام الذي تقدمه تركيا، فهم الذين لم يستطيعوا التعايش مع المستجدات في وطنهم، فكيف تحولوا من خصوم لقيادة المرأة للسيارة، إلى جمهور مؤيد لرجب طيب أردوغان؟