يبدو أن الطيران ليس مجرد مهنة، بل هو قيمة، والأمير الطيار سلطان بن سلمان وهو يتحدث عن السياحة يجعلنا ندرك أن حزمة من الانتصارات الوطنية التنموية تم تحقيقها في السنوات الماضية، كان أبرزها وأهمها هو تطبيع مفردة السياحة من كلمة مشوهة في أذهان السعوديين إلى مطلب اجتماعي واقتصادي وتنموي، وهو في حد ذاته مكسب مؤثر للغاية.
كان عام 2000 موعدا سعوديا مؤثرا حين تم إطلاق الهيئة العامة للسياحة، في الوقت الذي تزايد فيه اهتمام العالم بالسياحة وأصبحت تمثل موردا اقتصاديا مهما للغاية، بل تمثل المورد الأول للدخل القومي لدى كثير من دول العالم، والسياحة من منظور عام، واحدة من الاقتصاديات الحديثة التي ترتبط بالقيم الحديثة للإنسان المعاصر الذي يمثل الترفيه والسفر جزءا مهما من حياته وحريته، مما يعني أننا أمام مورد يرتبط بقيم ثقافية عالمية بالدرجة الأولى قبل أن يرتبط بالخدمات، فالفرد المعاصر في كل مكان من العالم يعيش السفر لا على أنه ممارسة فقط بقدر ما هو فكرة تنطلق من قيمة حريته في التنقل والتعرف على ما لا يعرف والاسترخاء والاستمتاع والمغامرة، وملء الجدول اليومي بما يمثل استجماما عاما.
يسافر الأوروبيون إلى دبي مثلا، للاستمتاع بسياحة الفخامة، ويسافرون إلى مصر لزيارة الأهرام والنيل والآثار، بينما يسافر السعوديون إلى كل العالم ليستمتعوا بمعلم واحد وقيمة واحدة وهي الحرية، ليس بمفهومها المشوه الذي ظللنا نكرس ارتباطه بالأخلاق والسلوكيات، وإنما بمفهومها الحضاري، الذي يتيح للفرد أن يتولى مسؤولية ذاته وتصرفاته في ظل القوانين والأنظمة.
يؤدي ذلك إلى واقع أننا أمام رافدين أساسيين في كل معادلات التنمية السياحية أولهما: الخدمات والمرافق، والثاني هو الأنظمة والأفكار العامة وأسقف الحريات.
تتولى الهيئة العامة للسياحة، كل ما يتعلق بالجانب الأول من المعادلة، بل حققت ومن خلاله إنجازات استطاعت أن تؤثر في طرف المعادلة الثاني، وأن تشيع في ثقافة السعوديين التي تعاني من تأخر شديد في الوعي السياحي، إننا أمام رافد اقتصادي وحيوي وتنموي مهم ومؤثر للغاية، أصبح بالإمكان أن تتعرف على تصنيفات لكل الفنادق والوحدات السكنية، وأن تجد شابا سعوديا أنيقا يقف خلف كاونتر الاستقبال في تلك القطاعات، وتجد نساء وعائلات يستفدن من الفعاليات السياحية في تنشيط دخلهم المالي، وأنظمة يلتزم بها مختلف المستثمرين في القطاعات السياحية، كل تلك المظاهر تشير إلى أن مصنعا حقيقيا للسياحة السعودية قائم الآن وقادر على الإنتاج والعطاء، بل على المستوى الثقافي والحضاري استطاعت الهيئة العليا للسياحة والآثار أن تمثل رافدا للدعوات السعودية للحوار الحضاري عن طريق إقامة المعارض في مختلف دول العالم مما جعلها ذراعا ثقافيا للمملكة في كثير من الفعاليات العالمية.
بكل وضوح وصراحة، فالجانب الآخر من التهيئة العامة للمناخ الوطني ليكون مناخا قابلا للاستثمار والتطور والجذب السياحي، ليس مسؤولية الهيئة العامة للسياحة والآثار، إنه باختصار مسؤولية القرار الوطني الذي يستطيع أن يصنع مناخا ملائما للواقع السياحي وتنميته، خاصة أن الجميع يدرك أن الحريات العامة التي تتحكم في الإيقاع اليومي للحياة السعودية ما زالت بحاجة إلى مزيد من العمل والتهيئة باتجاه إخراجها من واقعها الحالي القائم على وجود رقابة عامة غير مدنية، إلى ظل رقابة النظام والقانون كما هو الحال في كل دول العالم.
إن الأهداف التي تم من أجلها إنشاء الهيئة العامة للسياحة، بحاجة لإعادة صياغة ربما، تهدف إلى جعل العامل الاقتصادي والتنموي في طليعة أهدافها، وتركز على ضرورة صناعة السياحة من أجل صناعة دوائر تنموية حقيقية للاقتصاد الوطني، خاصة أن السياحة ليست مجرد وظائف تتركز في المدن الرئيسية بل هي قطاعات عمل مفتوحة ومتاحة في كل مناطق المملكة، والتنوع الواسع الذي تتسم به هذه الأرض السعودية الشاسعة يمثل أبرز مقوم سياحي لا يزال بعيدا عن الاستثمار الفعلي.
كل هذه النجاحات التي حققتها السياحة السعودية، جاءت وسط عوائق ثقافية ولوجستية واسعة، استطاعت الهيئة العامة للسياحة أن تطوع الكثير منها، وأن تجتذب مختلف القطاعات والشرائح للعمل معها، ووفرت أرضية متينة تؤكد لنا الآن أن ما نحن بحاجة إليه هو إعادة صياغة رؤيتنا الوطنية للسياحة، ومحوريتها في النماء الوطني، خاصة أن هذا القطاع يمثل في كثير من دول العالم أكبر جاذب للمهن وأكبر نطاق لتوفير الوظائف واستقطاب اليد العاملة.
في حلقة من مسلسل طاش ما طاش الشهير، انتهى الحال بمجموعة من السياح الصينيين الذين قدموا للسياحة في المملكة وزيارة الأماكن التاريخية، إلى أن يجلسوا في (بيت شعر) يلعبون (البلوت). كان المشهد ظريفا أكثر مما يجب، لكنه يبعث برسالة تؤكد أن لدينا ما لا يستحق الإهمال والضياع وأن بإمكاننا أن نجعل من السياحة في السعودية ذراعا تنمويا للحاضر والمستقبل.