يحكى أن مجموعة من أصدقاء الطفولة اجتمعوا ـ عندما صاروا كباراً ـ في مقر طفولتهم، وقرروا الخروج إلى المكان الذي كانوا يعتادون الخروج إليه أيام الطفولة، وعندما وصلوا إليه ذهب كل منهم إلى مكان محدد، له فيه ذكريات جميلة، أحدهم نزل إلى الوادي، وآخر ذهب إلى قمة جبل، وثالث جلس تحت شجرة يتأمل المكان.. وأثناء ذلك وأثناء تجوال أحدهم في ذلك المكان رأى طيراً لا يستطيع المشي ولا الطيران لكسر في رجله وآخر في جناحه، وأثناء ذلك حط بجانبه طائر آخر كان يحمل إليه طعاماً وضعه بجانبه ثم طار، فأخذ ذلك الطائر يأكل من الطعام حتى شبع والرجل يتأمله.. تأمل الرجل في هذه الحادثة وخرج منها بقناعة أن على الإنسان ألا يتعب في حياته، ويمكنه البقاء في منزله دون عمل يقوم به، أو جهد يتعبه، وسيكون هناك من يقوم بإيصال أكله وشربه له، وفعلاً عاد الرجل إلى مقر إقامته، وقرر عدم فتح متجره والبقاء في منزله دون أن يعمل، وافتقده أصحابه ومحبوه، وسألوا عنه، ثم ذهبوا لزيارته ليستطلعوا الأمر. وانتشى الرجل وهو يحدثهم باكتشافه العظيم ودرسه القيم الذي سيلقيه عليهم، ونصيحته المثلى التي سيسديها إليهم. وخرج من درسه ذلك بأن عليهم البقاء مثله في المنزل دون تعب أو جهد يبذلونه، تماماً مثل ذلك الطائر الذي وجد من يأتي له بقوته إلى مكان إقامته، لكن الحكمة تجلت في أصحابه الذين ردوا عليه بالقول: أيها الصديق العزيز أنت نظرت إلى الجزء السلبي من الأمر وهو ذلك الطائر الكسيح، ولم تنظر إلى صانع الإنجاز ومقدم الخدمة ومنقذ الحياة المتجلية في ذلك الطائر الجاد المجتهد الناصح الذي يعمل لنفسه ولغيره. فالطائر الكسيح المعاق عبء على مجتمعه، والطائر الذي قدم الطعام يقوم بعمل جليل.

هذه القصة تنطبق على واقعنا اليوم. معظمنا ـ حتى لا أقول كلنا ـ ينظر إلى السوءات، وإلى الجوانب السلبية، وما اعتدنا على تسميته "نصف الكاس الفارغ" الذي نطلق عليه نظرة تشاؤمية.

صانعو الفشل والإحباط كثيرون، هم لا يعملون، منهم من لا يستطيع أن يعمل، والقسم الآخر لا يريد أن يعمل، لكن كلا الفريقين متفق على أنهم لا الآخرين يعملون. بالطبع هم لا يريدونهم أن يكونوا أفضل منهم، ولهذا يعملون جاهدين أن يعيقوا عملهم، يفكرون خطأ، ويقررون خطأ، وليس هناك أسوأ ممن يفكر خطأً ثم يبني قراراً على ذلك التفكير. إنهم لا يمنعون الغير من العمل فقط؛ إنهم يدمرون.

إنهم مثل صاحب الطائر، الذي فكر بطريقة خاطئة، ووصل بذلك التفكير إلى نتيجة خاطئة، ثم بنى على تلك النتيجة قراراً خاطئاً.

هؤلاء موجودن في كل ركن من أركان أجهزتنا التنموية، ليس لديهم عمل إلا مراقبة الجادين المنجزين بهدف إحباطهم، وعرقلة مشروعاتهم بما قد يبدو منطقياً، وأحياناً بلغه بليغة، ومبررات ظاهرها منطقي وباطنها فيه الشر كل الشر، على زملائهم، وعلى العاملين وعلى المؤسسة التي يعملون فيها، وعلى المجتمع وعلى الوطن. إنهم يعيقون مسيرته ويقفون بالمرصاد لأي تطوير أو تقدم.

يقول لي أحد الأصدقاء بعد أن عرض مشروعاً على لجنة مختصة كان يتوقع أن تقوم بمناقشة جوانبه السلبية لتحسين ما تراه ضعيفاً فيه؛ أنّ أحد الموجودين في اللجنة علق قائلاً: هدف المشروع "قروش"، وفي حالة أخرى قال آخر تعليقاً على المشروع "هذه نظريات غريبة".. مثل هذه التعميمات الصادرة ممن يُفترض أن يعطوا رأياً موضوعياً مبنياً على دراية وشواهد، وضرب أمثلة تكشف عمق المناقشة وجديتها، وسعة اطلاع ومعرفة أصحابها مثل هذه التعميمات تقتل مبادراتنا، وتحبط مبدعينا، وتثبط الجادين المخلصين النشيطين.

المشكلة أن مثل هؤلاء المخربين الخبثاء نشطون وأذكياء في التخريب وقادرون عليه، يمتلكون أسس وقواعد اللعبة، ويؤدونها بطريقة فاعلة ومؤثرة، تماماً مثل الشيطان مجتهد في الخبث وذكي في الشر.

لا همّ لهم في الحياة إلا تعاسة الناس والحط من قدرهم، والتربص بإنجازاتهم لقتلها في مهدها، كفانا الله والمسؤولين والوطن شرهم، وجزاهم بما يستحقون إن لم يسعوا إلى هداية أنفسهم وتغيير ما بها. لكن لماذا ينجح مثل هؤلاء؟ ينجحون لأن الفكرة الناجحة مثل البرعم تماماً، صغيرة وضعيفة في مهدها، وإذا لم يتم تعهدها بالرعاية والاهتمام حتى تصبح شجرة قوية تؤتي أكلها ماتت في مهدها. يعرفون ذلك تماماً ويسعون لقتل البراعم الناعمة في مهدها. كثير من الأفكار الجميلة التي كان بإمكانها بعد توفيق الله أن تصنع فرقاً في مجتمعنا قتلت، وكثير من المبدعين أُحبطوا بسبب عدم احتضان أفكارهم التي أيضاً قتلت في مهدها. نعرف هؤلاء أولاً بأنهم معترضون، يكادون يعترضون على كل شيء، هذه أول فرضية نقوم بها عندما نريد التعرف عليهم، ونتأكد من تلك الفرضية عندما نرد عليهم بالمنطق فيصرون على غيّهم. والذي لا أفهمه هو كيف يتغلب أصحاب الشر وهم قلة على أصحاب الفضائل الكثر؟ كيف يتغلب المحبطون المثبطون على أصحاب الأفكار النيرة والمنجزين؟ الإجابة الفورية التي تخطر على البال لأول وهلة هي أن الصنف الأول نشطاء فوق العادة، وينطلقون من الخوف والذعر الذي ينتابهم عندما يتوقعون أن هناك من الزملاء من قد يكون أفضل منهم، وهم مستعدون للمواجهةconfrontation مهما كان مستواها، وهذا الشعور الخبيث لا ينتاب الفضلاء أصحاب الإنجازات. فطبيعتهم الفاضلة لا تسمح لهم بالمواجهة فيُهزمون، ومن مهام المسؤول الأول في أي مؤسسة أو إدارة أن يتنبه لهذا العبث القاتل، وألا يسمح به، ويأخذ جانب الفضيلة الذي يمنع كثيرين من أخذه عدم التنبه لهذا الأمر والغفلة عنه. أو أن الفريق الأول من المتملقين الوصوليين الذين يحسنون الوصولية. إنه أمر خطير وقد تُعزى نسبة كبيرة من بطء مسيرتنا ـ حتى لا أقول تخلفنا ـ إلى هذ الأمر.