حدثني والدي أن عماً له - رحمهما الله - كان من المعددين، وأنه اعتاد الجلوس عصراً في ساحة بيته، تحيط به زوجاته الأربع وأبناؤهن، وأن أكبرهن كانت مدار احترام الجميع، وذكر أن زوجته الصغرى ماتت وهي تلد، فاحتضنت الزوجة الكبرى الوليد وربته وعلمته، وليصبح كما أثبتت الأيام أكثر براً بها من أبنائها. كما عرفت طالبة تدرس الطب تربت في كنف زوجة أبيها، التي كانت تلزمها ـ وبصرامة ـ بإكمال دراستها، مع ما كانت تجده من مشقة وضيق في ذلك، وقد قابلتها بعد أن تخرجت بسنوات، فأظهرت الكثير من الامتنان لزوجة أبيها التي كانت بعد الله وراء تخرجها كطبيبة، وأخرى لم يكن دليلي على حبها لأبناء زوجها إلا احترامهم وإجلالهم وحبهم لها، لقد قالت لي إحداهن وهي طالبة جامعية إن أمها – زوجة الأب - لم تفوت يوماً مجلس الأمهات، وإنها كثيراً ما كانت تسعى لرفع عقوبة الوالد عنها وعن أخواتها وإخوانها، بل تعمد لسترهم وتوجيههم إذا ما استلزم الأمر.. هي الصديقة الصدوقة وكاتمة السر والأم التي أحبوا.
لقد كان وجود أمثال هذه السيدة الفاضلة بيننا أمراً مألوفاً لعهد قريب جداً، كما كان خلاف الزوجات يحاط باحترام شديد، وكذا كان توقير الزوجات للكبيرة منهن. ومع أني وبالمقاييس المعاصرة لا أستطيع شرح كيف كان هذا الوضع المثالي شائعاً في مجتمعنا لزوجة الأب ولتعدد الزوجات، فإني في الوقت نفسه؛ لا أفهم كيف تغيرت النفوس وتحولت الأمزجة لتصل إلى هذا المنحنى الخطير، وكيف أصبحت زوجة الأب في أذهان العامة تماثل صورة الساحرة التي تقتل وتعذب الأطفال، وكيف افتقدت الأنثى تلك المشاعر التي تدفعها لاحتضان طفل لا تعرف أمه من أبيه، وكيف تحولت الواحة المثمرة إلى صحراء قاحلة، والبشر إلى كائنات لا مشاعر لهم، وكيف افتقدنا تلك اللمسة الحانية؟!
لقد أصبحنا في مجتمعنا نتابع جرائم ترتكب من قبل زوجات الأب وبشكل يكاد يكون دورياً، ضربٌ وإذلال، وحرقٌ لأجساد صغيرة، وقد وصل الأمر ببعضهن لقتل الطفولة بدم بارد، السؤال الوارد هنا: أين ذاك الأب الذي سها عن أبنائه فهو لا يسمع ولا يرى ولا يفقه شيئا؟!
إن الواقع يؤكد أن مجتمعنا في خطر، وأبناؤنا في خطر، وطفولتنا في خطر، وقيمنا بل ديننا الحنيف في خطر، ونحن جميعا محاسبون عاجلاً غير آجل عن أوضاعٍ وصلنا إليها، استكانت أنفسنا بها استكانة الأجساد في قبورها، لقد أصبحنا نتابع تلك الجرائم بامتعاض، وسرعان ما نهجر ضحاياها دون مبالاة، متناسين ضعفهم وقلة حيلتهم، متناسين تعاليم دينٍ خص الطفولة بالرعاية والرحمة، متناسين سيرة قدوتنا خير البرية عليه الصلاة والسلام، التي تزخر باللطف والحنان بالصغار، سيرةٌ علمتنا أن الواجب علينا تجاه أطفالنا مداعبتهم وتعليمهم، احترامهم والتودد إليهم، وكذا تقدير مشاعرهم، فها هو عليه الصلاة والسلام يُقبِّل الحسن أو الحسين رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس الذي قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يُرحم". نسينا أن من حقوق الطفل مداعبته وتقبيله، ولنا في رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام القدوة والمثل، لقد نسينا كيف علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام احترام الطفل وحقوقه، فها هو سهل بن سعد رضي الله عنه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً، قال: فتله -وضعه - رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده". لقد احترم عليه الصلاة والسلام الطفل الصغير فاستأذنه، ثم احترمه ونفذ رغبته، أما نحن فنزجر الصغير أمام من هم أكبر منه، بل أمام أقرانه، ونزعم أننا نربيه، وقد نهمل أطفالنا فلا نعلم عن حالهم إلا اللمم، وقد يتفقد الواحد منا سيارته أكثر من تفقده لأبنائه.
ومع أننا ندرك أن العنف ضد الأطفال ليس ظاهرة في مجتمعنا ـ بحمد الله سبحانه ـ لكننا ندرك في الوقت نفسه أننا لو تركنا الأمر على حاله لأصبح العنف ضد الأطفال ظاهرة اجتماعية، فالجريمة ضد الطفل تتوالى وتتزايد وبشكل مخيف، وهي ليست بالمجمل من جراء ظلم زوجة أب مجرمة لا يعرف قلبها الرحمة؛ بل قد يقع العنف من جراء ظلم والد أماتت الدنيا ضميره، أو معلم لا يمت لشرف المهنة بصلة، وقد يقع من غيرهم.. لقد آن الأوان أن نرى سنامنا الذي مال ومالت قامتنا معه، لقد آن الأوان أن نعترف بواقع بغيض لا يليق بنا ولا بديننا الحنيف، ولا بطبيعة حياتنا الأسرية التي نشأنا عليها، وأن نقر بخطورة الوضع، ونعاقب وبصرامة كل معتدٍ وجه اعتداءه إلى طفل لا حول له ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، طفل دموعه لم تحرك أرواحانا فكيف بأجسادنا التي تيبست، طفل ألجمنا لسانه، فلا هو بناطق ولا هو بشاهد ولا هو بشاكٍ، ولو فعل لوجدنا مسفهين زاجرين ناقمين، فلنحذر.. فلهذا الطفل رب يحميه، رب ينصره ولو بعد حين، طفل جعله زينة هذه الحياة، واستأمننا عليه، فهل ضيعنا الأمانة؟!