"إنها لمأساة حقيقية أن ينتهي الأمر إلى هذه الحال.. ففي هذا العصر من العولمة يستطيع الإيمان الديني أن يعمل كسبب للتقدم في المقام الأول، إن الدين ليس في طريقه إلى الزوال وينبغي له ألا يزول، فالعالم في أشد الحاجة إلى الإيمان الحقيقي".. (توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق – الاقتصادية 22 محرم 1432هـ).

طبعاً توني بلير ليس مرجعاً دينياً ولا حتى سياسياً أخلاقياً، فما تزال مواقفه وأحاديثه الكاذبة تصم الآذان.. ومازالت صورته الكاريكاتيرية التي تصوره "كلباً تابعاً" للمجنون جورج بوش الابن ماثلة للعيان.. لكن هذا لا يلغي "مركزية" هذه الكلمات في مشاعر ملايين البشر، وبالأخص في هذه المنطقة من العالم التي ظلت بذرة التدين، بها، مثمرة في وجدان أهلها حتى في أحلك الظروف، فقد بقيت "جمرة" الدين حية تحت رماد الغزو الاستعماري والضعف المدني وشيوع الخرافة وسيادة الأمية وتكالب أوجاع وأمراض الوهن الحضاري.. كان الدين والتدين الحصن الذي يلجأ إليه أهل هذا الجزء من العالم في لحظات ضعفهم وانكسارهم ولم تستطع كل المحاولات الخارجية والداخلية أن تفصم عرى علاقتهم بالدين.. فقد حاول بعض أبنائه الخروج من عباءة الدين رغبة في التواصل مع الحضارة المدنية في الغرب حين توهموا أن خلع عباءة الدين "شرط" الالتحاق بقافلة التمدن والحضارة والتقدم.

الحديث عن الدين متشعب و"ملتبس" في هذا العصر بسبب مواقف بعض المتدينين ونظرتهم إليه وتفسيرهم لنصوصه واختلافهم في فهم مقاصده، وهو الاختلاف الذي يؤدي إلى التباعد والتنازع حول الحقيقة وادعاء تمثيلها إلى الدرجة التي يصبح الفهم الخاص سلاحا يشهر في وجه المخالفين لإخراجهم من دائرة الدين.. وقد عرفت البشرية هذه السيرورة على مر تاريخ التدين، ولهذا ظن البعض – بنظرتهم السطحية العجلة – أن التخلص من أحكام الدين وإبعادها عن حياة المجتمعات هو السبيل إلى إزالة الاختلاف والدخول في واحة الاتفاق والانسجام، متجاهلين أن "الاختلاف" طبيعة بشرية مركوزة في الإنسان "المفكر" وأن من طبيعة المفكر أن يرى الصواب بحسب معاييره ومساحة ما يرى من الحقائق وعمق ما يتوصل إليه من سبر أغوار المعرفة.

وإذا تجاوزنا الحديث في عموم القواسم الإنسانية المشتركة في الموقف من الدين و"هبطنا" إلى أرض الواقع في مجتمعنا السعودي لنرصد حراك التجاذب بين تياراته وأطيافه، سنلحظ أن الكتلة الكبرى هي تلك التي ترى "تصالح الدين" مع حياة الناس وضرورة مصاحبته لتطورهم وتوجيه مسار معايشتهم لمقتضيات العصر.. وتنقسم هذه الكتلة الكبرى إلى قسمين: "تيار الوعي الديني" الذي يتفهم رسالة الإنسان في الكون ويستوعب انسجامها مع مقاصد الدين وتأثيرها على الفرد وبناء المجتمع.. وتيار "الجمود" الذي "سجن" عقله في محابس التقليد فحرمه متعة التأمل وفضائل حرية التفكير لفهم مراد الشرع، و بالتالي فقد القدرة على تذوق "مرونته" الإيجابية التي بها ظل حاضراً في وجدان أهله دون أن يحول بينهم وبين العيش في عصرهم. وإلى جانب هذين القسمين، توجد فئة أو عناصر يتظاهرون في خطابهم بالرغبة في "إراحة" الدين من مشاكل الحياة، و" تفريغه" لوظيفة العبادة – متى ما أراد الفرد أن يؤديها!! – وهذه الفئة أو هذا التيار – إن صح التعبير – لا يوحده فهم مشترك ولا تدفعه قناعات مؤسسة على الدرس والتفكير والتأملات في غالب الأمر وإن وجد فيه أفراد انتهوا إلى أن الدين مسألة خاصة لا ينبغي أن تنشغل بها المجتمعات في مسار حضارتها ويكفيه أن يبقى في دائرة "الاختيار" الفردي.. ويبدو أن غالبية هذا "التيار" تنزع إلى هذا التوجه إما جهلاً بقيم الدين الحقيقية ومبادئه السامية ومقاصده الثرية أو هروباً من مظاهر التشدد التي تغلب على خطاب بعض المتدينين مع غلظتهم وجلافتهم وعلو أصواتهم ومواقفهم المستفزة المتشنجة ضد مخاطبهم..

وإذا نظرنا إلى "خريطة" المجتمع – في عمومه- وفحصنا حقيقة خطوطها وتضاريسها ومواقع الدين والمتدينين فيها ونتوءات الذين يريدون "التحرر" منه وجدنا أن الغالبية تحرص على قيم الدين وضرورة حضوره الفاعل في الحياة، وأن "القلة" التي تبدو ضائقة بالخطاب الديني لا تشكل وزنا عددياً يمكن معها أن يقال إن مجتمعنا يتنازعه تياران: تيار "الدين" وتيار "اللادين" بل النظرة المنصفة العادلة تقول إنه مجتمع متدين وغالبيته تريد أن تطمئن إلى أن تدينها لا يحرمها من العيش في الواقع ولا يسلبها حريتها وآدميتها .. وهنا يأتي دور الذين قلنا عنهم "تيار الوعي الديني" فهم القادرون على مواجهة جلافة المتشددين وشطحات المجدفين. ولأن "التجديف" يكاد لا يذكر لقلة أهله وضعف تأثيرهم فإن أهل "الجلافة" والتعصب و"العداوة" و"الظلم" في النظرة للآخرين هم الخطر الحقيقي الذي يستحق أن يكون موضع اهتمام "تيار الوعي الديني". وعليه تقع مسؤولية حماية الدين من عبث المتشددين وروح التدمير التي يحملها خطابهم كما عليه مسؤولية سلب دعاة "الميوعة" في الدين بريق الإغراء الذي يقدمونه تحت لافتات الحرية والعقل والعصرية. وهو مطالب بتخليص الدين من خطاب "المجموعات" و"المعسكرات" ومواقف "الفزعة" الحزبية في صراع تدافع المصالح، كما يطالب بتقديم رؤى فكرية تستند إلى مرجعية فقهية تدرك الواقع وتحس بحاجات الناس وتعرف مقاصد الشرع وتستصحب مفاهيم احترام العقل وإجلاله ومكانته التي لا تزدهر وتؤتي ثمارها إلا في ظلال الحرية التي بدونها يفقد الإنسان كرامته التي أقرها خالقة منذ الأزل. وعليه أن يفتح "باب الاطمئنان" لتدخل منه الغالبية المفطورة على التدين دون أن تفقد شوقها وتطلعها. أما القلة التي تلفحها سموم الرغبة في الخروج من الدين فلن تجد في واحة الوعي الديني من تغريهم بلافتاتها. يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير فرانسيس بيكون "إن قليلا من الفلسفة يقرب الناس إلى الإلحاد أما التعمق في الفلسفة فيردهم إلى الدين". وإذا استعرنا العبارة وأجرينا عليها تعديلا لتكون: "إن قليلا من فهم الشرع يقرب الناس من التشدد أما التعمق في مقاصد الشريعة فيردهم إلى الإعتدال". وأعتقد أن الدين وأهل التدين لا يجدون أشد من "أعداء الداخل" الذين يفخخون مناهجه لينفروا منه ويستعدوا عليه كارهيه حين يجدون في سلوك وخطاب التشدد شواهد وبراهين على مخاصمة "دينهم" للحياة.

إن خلط الدين بما ليس منه يدفع أهل الفكر والتأمل من أبنائه إما إلى نبذ هذا "الخليط" وحينها يتعرضون للاتهام بالخروج من دائرة الدين وإما التصدي لأهل هذا "المخلوط" والعمل على تنقيته من الشوائب وطرح الزيف منه وحينها يتعرضون إلى صخب الغوغاء وأصحاب المصالح الذين لا يريدون "لمخلوطهم" أن يصفى لأن في تصفيته اتهاما مباشرا لهم وإضعافا لموقفهم في وجه من يعرض الأصيل من الدين.