زوبعة الدكتور طارق الحبيب الأخيرة وآهاته الوطنية أثارت جروحاً نازفة لم تندمل، وانقسم حولها الكثير، فمنهم من انبرى ليبرر وطنيته ومنطقته التي لا يساومهم عليها أحد في مسيرة وطن وعطاء، ومنهم من أيد كلامه جلياً حتى بعد اعتذاره الخالي من دسم الآهات، كطيبة خاطر على صفحته في الفيس بوك تحفها المنة بإخراج مواطنين سعوديين من أقفاص الصحراء وعلاجهم!
ذهب البعض إلى أن (الحبيب) ليس مسؤولاً عن تفسيراته وتعليلاته المشطورة، بل إنه كان يقصد مع سبق الآهات والترصد، كانوا سعيدين لانكشاف الكمال المُدعى وإظهار لغة الباطن، لأن التاريخ والزمن وسقطات اللسان كفيلة دائماً بفضح المخفي! والبعض ذهب إلى أنه لم يقصد، متعاطفين مع (الحبيب) وتصريحاته وقبلها هيئته وتاريخه، وذهب البعض للدخول في تحرير مصطلحات الزوبعة هل كان مقصوداً من حديثه الولاء أو الانتماء أوما بينهما؟ وهل كان يقصد القبيلة أم المنطقة؟ وتساؤلات حيرى وتبريرات مدافعة ومتصدية هنا وهناك.
تلك الزوبعة الذي يُحمد لظهورها تحت أشعة الشمس وفي وضح النهار؛ قادتنا إلى كشفنا على حقيقتنا فقط وتجريد حوارنا، وجعلتنا نسأل أنفسنا لماذا قادتنا إلى مناطق قاتمة؟ وسنبدأ جزءاً من كلٍّ وإشكالية أسئلة لا تعرف الفروقات الفردية، لماذا سمحنا مؤخراً بتوالد قنوات فضائية (مهايطية) لا تعترف إلا بالقبيلة، مَن وراءها وماهي أهدافها، ومخرجاتها؟ كم عدد الشكاوى التي وصلت لوزارة الثقافة والإعلام ضده مواقع وصحف إنترنت تركز على الإساءة الشخصية وإثارة النعرات ضد قبائل أخرى؟ أين مخرجات ونتائج مركز حوارنا الوطني؟ وماذا فعل نُخبه نحو معالجة المناطقية والعنصرية والطائفية؟ كم كاتبٍ حاول معالجة الداء والبحث في صلب المشكلة ونواتها شجباً وتنظيراً؟ كم خطيب مسجد انبرى في خطبته لتلك الممارسات؟ كم مرشد طلابي حاول فك اختناق بين مجموعة من الطلاب الذين رضعوا تلك العنصرية ولم يفطموا منها!
وفي الاتجاه الآخر أسئلة ميدانية؛ تسأل عن مشاريع المكان عندما انحرفت عن مسارها، وعن حق الإنسان في صور بالغة الاختزال في خريطة وطن؟ وتسأل كم منتظرٍ لقرار تعيين، وموظف محروم انتظر ترقيته وذهبت لآخر قريب من (منطقة) القرار، وكم من مبدعٍ هُمِّش وحورب وأٌقصي بكل الطرق بمعيار ثقافة مسقط الرأس و(أيش تعود)؟! اسألوا إدارات التعليم وأقسام التوجيه والإرشاد عن حجم مشاكل طلاب مدارسنا نتيجةً لتلك الممارسات وإفرازاتها؟ اسألوا عن بعض الممارسات في انتخابات الأندية الطلابية في دول الابتعاث؟
من ينكر منا أن المناطقية والعنصرية أصبحت متنفساً بتلميحات أوتكتلات لدى الكثير منا، عبر أحاديث ثنائية جانبية أو عبر صداقات يحكمها هاجسٌ إقليمي أو بين أفكار شائعة تتداول عن مناطقنا، ورغم أن الكثير منا ينكرها بكافة الأشكال لكنه أسفاً في الوقت نفسه يتهم البقية بأنهم عنصريون مناطقيون؟! وآخرون ينادون بها علناً ويقفون وراءها، يثلبون ويقدحون ليُخيلوا لنا أن وطننا يعيش في صفيح ساخن وفوق فوهة بركان! وهنا كم من (آه) تحز في قلبك عندما ينبري مواطنك بشقاء ويتشدق بكبرياء ليعتقد أو ينال أو يقلل أو يطعن أو يسلب.. وفيه يظل ما سبق فراغاً مقالياً أو كلامياً لم ولن يعالج حتماً هذا الداء الزئبقي المعقد.
ليس ثمة خطر في مجتمعنا اليوم ينافس ظاهرة العنصرية والمناطقية، وجميعها آفة وصورة من صور التمييز، وانتشارها خطر يستفحل، بل باب ينزغه الشيطان نزغاً، وكل مجتمع تتفشى فيه العنصرية تضيع حقوقه، ولن يقضى عليه إلا حين يتحول إلى قانون مكتوب فقط.
لا ننكر أن كل المجتمعات المتقدمة تمارس العنصرية ولكنها لن تستطيع أن تمارسها علانيةً، لأنها أدركت خطورتها وجرمتها، وسنت الأنظمة والعقوبات الصارمة لمحاكمتها وللحد منها، وعدتها جرائم من الدرجة الأولى، وإسلامنا قبل أربعة عشر قرناً – بفضل الله- نهى عنها وجعل مكافحتها من أهم دعائمه واستقراره ونشره، فعجباً لنا!
مازلت أتذكر ذلك الطالب السعودي الجديد في الأكاديمية الإسلامية السعودية في واشنطن الذي حمل معه فكرنا وثقافتنا وانطلق إلى طالب أمريكي مسلم ذي بشرة سوداء وشتمه (بالعبد)، فكان مصيره استدعاء والده وفصله من المدرسة لمدة أسبوع، وعنفه زملاؤه ومعلموه وشرحوا له هنا (قانون)، وهذه الأيام مازلنا نعيش محاكمة شابين أمريكيَّيْن قاما بألفاظ عنصرية ضد شابين أحدهما سعودي بسبب انتمائهما العرقي ولون بشرتيهما.
إن الأرواح الشريرة التي تسكن نفوس بعض الغلاة وموجات التمرد النفسي نحو المناطقية والعنصرية؛ لن يطردها ويوقفها فقط سوى إصدار قانون يجرم أي سلوك تمييزي، سواء كان على أساس الطائفة، أو العرق، أو الجنس، أو المنطقة، أو القبيلة والعائلة، فالأوان أزف كي يكون لدينا قانون وقناة رسميةً أوجمعيةً حقوقية تتولى مسؤولية مكافحة التمييز بكافة أشكاله، وتقدم كل من يمارسه للمحاكمة، لنضمن حقوق كل إنسان يعيش شراكة تكاملية حقيقية على طهر تراب الوطن، ولنضمن أجيالاً وطنية مندمجة ومنصهرة، تعرف أن البقاء للوطن فقط، ولا عزاء لمزايديه وظلمة أفكارهم.