استطاعت الدولة التركية عبر تاريخها العثماني أن تؤسس لدولة قوية عسكرياً وسياسياً، منذ تلك اللحظة التي انهارت بها القسطنيطينية-عاصمة بيزنطة- تحت رايات السلطان محمد الأول، الذي اختار العاصمة المغلوبة عاصمة جديدة لإمبراطوريته التي امتدت وتوسعت خلال ستة قرون لتشمل أرجاء واسعة من القارات الثلاث. وتميزت بموقع استراتيجي على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، لتصبح الأستانة (إستانبول) نقطة التقاء الشرق بالغرب، والقديم بالجديد، وآسيا بأوروبا.

استمرت سلطة بني عثمان ستة قرون خلت، كانت مركزية الدولة في يد السلطان معظم الوقت، وأول هذه القوانين قانون "قتل الإخوة" وهو الإجراء العرفي الذي اعتمده بايزيد الأول ويجيز للسلطان المتولي للعرش تصفية الأقرباء المنافسين له بعد الاتفاق مع العلماء. إلا أن الدولة العثمانية رغم ذلك شهدت إصلاحات سياسية أوجدت شكلاً معيناً من دولة المؤسسات خلال عهد سليمان (القانوني)، غير أن العصر العثماني بمجمله كان عهداً عسكرياً توسعياً، ولم يبرز فيه من الناحية الثقافية سوى فن العمارة الإسلامية في بناء المساجد، وبذلك أراد السلاطين والأمراء والأميرات والباشوات تخليد ذكراهم واقعياً على الأرض.

توسعت الدولة العلية فهرمت ثم سقطت. ومن خلال مؤسساتها الاجتماعية والتعليمية والسياسية والعسكرية خرج الرجل القوي الجنرال (مصطفى كمال باشا) الذي قاد البلاد عسكرياً على التخوم الأوروبية والأفريقية محققاً عدة انتصارات، ثم استطاع الوصول إلى سدة الحكم بعد سنوات طويلة من العمل العسكري والسياسي من خلال جمعية الاتحاد والترقي، وانتهى الأمر بإدارته لشؤون البلاد بعد انقلاب كان يتهددها خطر الاقتسام والتقسيم بعد الحرب العالمية الأولى، فلما وصل الأمر إلى حقيقة الهزيمة فقدت الدولة العثمانية جل الأراضي التابعة لها بشكل غير مباشر، استلم مصطفى كمال زمام الأمور، وأعلن قيام الجمهورية وبعد فترة نقل العاصمة من إستانبول إلى أنقرة، وهي المدينة ذاتها التي اتخذها العثمانيون عاصمة لدولتهم قبل وصولهم إلى القسطنطينية، ثم اتخذ قراراً يلغي منصب السلطنة العثمانية، وبعد ذلك بفترة ألغى منصب الخلافة الذي استثمره العثمانيون منذ عدة قرون لقيادة العالم الإسلامي.

أعد مصطفى كمال باشا الدولة والمجتمع لمرحلة جديدة كان يطمح من خلالها لجعل تركيا دولة قوية على طريقته التي اختارها، ونظراً لأن مؤسسات الدولة لم تكن بحاجة إلى العلمنة، فهي معلمنة أصلاً، بدأ أتاتورك بعلمنة المجتمع؛ لأنه ارتأى أنها الأسلوب الأفضل لقيام مؤسسات سياسية حديثة لبدء مرحلة جديدة، هي مرحلة البناء والتطوير، من أجل احتواء الهزيمة القاسية التي تعرضت لها تركيا خلال العهد العثماني.

وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبها مصطفى كمال في تغييراته الراديكالية التي ربما لم يكن المجتمع التركي مستعداً لها، ومنها قانون القيافة، وفرض قراءة القرآن والأذان باللغة التركية.

ويبدو أن مصطفى كأحد أبناء المجتمع التركي، كان يعيش هم بناء الدولة من جديد، وإضافة لذلك يعيش صراعاً داخلياً فيما بين ماض مجيد ولّى، وحاضر مليء بالصعوبات قاعدته الأساسية إما نكون أو لا نكون!

ونظراً لكونه متأثراً علمياً وثقافياً بأوروبا-فرنسا على وجه التحديد- ركز كمال على تنفيذ رغبته في التخلص من هذا الشعور الذي يتنازع المجتمع التركي ويطارده كشبح باسم الهزيمة. فبدأ تنفيذ بناء الدولة الجديدة عبر المؤسسة السياسية بطبيعة الحال، إلا أن الجسر الأهم كان المجتمع، حيث ركز على عاملين رئيسيين هما التعليم والثقافة. فعمل على إيجاد تعليم حديث مستعيناً بالخبرات الأوروبية، مبتدئاً بتغيير الأبجدية التركية من العربية إلى اللاتينية، ثم قام بتحرير المجتمع من سلطة "الحريم العثماني"، وذلك بزواجه من لطيفة هانم، الفتاة الأرستقراطية المتأثرة أيضاً بالثقافة الأوروبية، التي تجيد عدة لغات، يقوم باصطحابها معه في زياراته وتنقلاته الرسمية ملتزمة بحجابها الإسلامي، إلا أن مجرد خروجها هذا أغضب المجتمع التقليدي فأصدرت بعض الجماعات بيانات تعتبره خارجاً عن الإسلام وتبيح دمه، مما جعله يتعرض لعدة محاولات اغتيال كانت أهدافها سياسية بطبيعة الحال كمحاولة لإعادة السلطنة العثمانية إلى سدة الحكم من جديد.

ألغى مصطفى كمال اللقب الذي كان يلقب به (باشا) فمنحه البرلمان لقب (أتاتورك) أي أبو الأتراك كما هو معروف... استطاع أتاتورك أن يعيد لتركيا وهجها من جديد فأصبحت الجمهورية ورئيسها تحت دائرة الضوء بالنسبة لوسائل الإعلام العالمية.

حرصت الحكومات المتعاقبة على إبراز التوجه العلماني للدولة التركية ذات الاختلاف الديموجرافي والإثني والديني والمذهبي والثقافي، حيث تنضوي كل هذه الاختلافات تحت العلم التركي. ومن رحم هذه العلمانية التي فرضها أتاتورك خرج حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي يسيطر اليوم على الرئاسة والحكومة والبرلمان، منذ أن بدأ بذكاء حتى فاز في الانتخابات خلال السنة الثانية من الألفية الثالثة.

اليوم، يعود الباشا (إردوغان) بثوب جديد هو الثوب الإسلامي المعتدل، مرت الجمهورية التركية بعدة مراحل تتجاذبها الأمواج، وأظن أن ما وصلت إليه اليوم من استقرار في (العهد الإردوغاني) أعاد لتركيا وهجها من جديد بعد أن كان ينظر إليها بريبة من قبل الغرب على أنها دولة شرقية/إسلامية، وينظر إليها في الشرق على أنها دولة تنصلت من هويتها الإسلامية مرتدية العباءة العلمانية. تركيا أصبحت اليوم لاعباً مهماً ورئيسياً في الشرق الأوسط والعالم، وبفضل السياسيات الذكية والمتزنة لمؤسسات الدولة تم التخفيف من حدة التوجه العلماني الشكلي الذي كان سائداً قبل عقود، حيث لا يمكن أن يشاهَد مسؤول برفقة زوجته التي ترتدي الحجاب، إلا أن إردوغان اتبع طريقة سلفه أتاتورك في إعادة تقبل الحجاب على المستوى الرسمي، إذ لم يعد من القضايا المهمة بل ربما تصبح شكلية في المجتمع التركي بعد تعديل الدستور الذي يسعى إليه حزب العدالة والتنمية، إلا أنه في أكثر من مناسبة صرّح الرئيس غول ورئيس الحكومة إردوغان بأن تركيا دولة علمانية، ويلمحان إلى أن علمانية الدولة لا تتنافى مع الدين الإسلامي الذي يدين به غالبية الشعب التركي. وحين كان التحدث بالتركية أحد الميزات التي يعتز بها الأتراك لدرجة التشدد، يخرج إردوغان ليتحدث باللغة العربية بمناسبة افتتاح القناة التركية الناطقة بالعربية، وبهذه التوجهات الذكية سياسياً واجتماعياً وثقافياً استطاعت الجمهورية التركية أن تستعيد دوراً لازمها منذ قرون، ومن يشاهد تسارع الأحداث في الشرق الأوسط والعالم لا بد أن تلفت نظره تصريحات المسؤولين الأتراك.. وكأن الجمهورية التركية تقترب من أن تكون شرطي الشرق الأوسط!