الشيحي وأبو السمح، كاتبان متميزان ولهما نظرة ثاقبة في الأمور التي يتناولانها بالتحليل.. أو هكذا أراهما.. تساءل أبو السمح في عموده اليومي بصحيفة عكاظ عن أسباب "انكسار الصيني" في تعبير استعاري عن فشل الشركة الصينية التي تنفذ عقداً كبيراً لبناء مدارس في الممكلة.

وأعاد أسباب الفشل إلى عدم نجاح الاتصال بين الفريقين بأسباب اللغة.. ورد عليه أخونا الكريم الأستاذ صالح الشيحي بسؤال كبير أن نقوم من طرفنا بدراسة الأمر وتحليل الأسباب قبل أن يحللها لنا الصينيون.. وإن كنت أقدم تفسيراً لفشل الشركة الصينية إلا أنني قبل الولوج في مناقشتة أود أن أوضح أنني مؤمن كل الأيمان أنني لم أدع يوما أنني أملك الحقيقة.. كما أنني لا أؤيد أياً ممن يدعي ذلك.. بل إنه لأمر ممقوت أن يدعي أحد أنه يمتلك الحقيقة ويحتكر الصواب.

فكل منا يملك جزءاً منها وقد تجمع الأجزاء لتشكل حلاً قوياً وحقيقياً هذه ما أراه مبدأً سليماً.

وللعودة لمناقشة موضوع أبي السمح والشيحي في فشل الشركة الصينية في مشروعها الكبير في المملكة.. أود أن أذكر قضيتين وأترك التعليق عليها للقارئ الكريم الذي أظن أن في فطنته ما يمكنه من الوصول إلى النتيجة التي يراها.

الأولى: تعود بي إلى الثمانينات الميلادية صدر وقتئذٍ كتاب لمعالي الدكتور محمود سفر وزير الحج السابق بعنوان "التنمية قضية" فيتحدث فيه عن قضايا التنمية ومشكلاتها ومعوقاتها وقد أورد قصة معبرة جداً حيث ذكر أن وافدا إندونيسياً زار ألمانيا وأعجب بنظامها الاقتصادي وقوته وسرعة تقدمه.. فأراد ذلك الوافد أن ينقل ذلك النظام إلى بلاده.. وطلب رسمياً من الحكومة الألمانية أن تساعد حكومته في تقوية اقتصادها بأن ترسل لهم خبراء ومختصين يرممون النظام الإندونيسي وينقلون مفاهيم النظام الألماني إليهم.

وكان لهم ما أرادوا.. وذهب الوفد الألماني وعمل ونظم وغير وبدل.. ولكن مؤشر تقدم الاقتصاد الإندونيسي لم يتزحزح قيد أنملة.. وبعد فترة طويلة ذكر الدكتور محمود سفر أن الوفد الألماني "عاد أدراجه يجر أذيال الفشل" في إحداث أي تغيير أو تطوير في النظام المالي الإندونيسي.

والقصة الأخرى حدثت عندما تعرضت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لنقد شديد من المجتمع في عهد رئيسها السابق معالي الدكتور صالح العذل في نقل التقنية بالسرعة المطلوبة إلى المملكة.. وحسب تقديري لتلك القصة، فإن معالي الرئيس حاول تجنب ذكر الأسباب الحقيقية وراء سرعة نقل التقنية وبنفس السرعة التي تصب بها في العالم إلى المملكة.. لكنه عندما اشتد عليه النقد وأحس بسخونته التي لم يتمكن من تحملها ظهر علينا بالقول.. إن المجتمع السعودي لن يتمكن من استيعاب التقنية بالكم الكبير الذي تتدفق به ولذلك لا بد من التحكم في الجرعات التي تصب إليه حتى يمكنه استيعابها.

ولنكن موضوعيين قبل الهجوم المنفعل.. وباستخدام المقياسين السابقين.. الأقوال لأبي السمح أن الحقيقة "قد" تكمن في أن نجاح شركة كبيرة جداً في بلادها التي تتمتع ببيئة محددة قد لا يتحقق في بلاد أخرى لا تتمتع بنفس مواصفات تلك البيئة, فهي كبيرة هناك بمواصفات جعلتها كبيرة وعندما نقلت إلى بيئة أخرى افتقدت تلك المواصفات فأصبحت صغيرة.. وأقول لأخينا الشيحي إن طلبك معاقبة المتسبب في فشل الشركة الصينية قد يكون فيه ظلم لذلك المسكين الذي ليس له ذنب في فشل المشروع.. ولهذا فقد لا تكمن الحقيقة بينكما أنت وأبي السمح..

إذاً أين تكمن الحقيقة؟

وأنا هنا أزعم وأسجل أن التطوير له علاقة كبيرة بالثقافة والمجتمع.. ولهذا أزعم أن أسباب الإخفاق لا تتعلق بالمسؤولين الذين يبذلون جهوداً مضنية ويثبتون مشروعات ضخمة وكبيرة.. إلا أننا لا نرى تقدماً..

ولهذا فإنني هنا أزعم أننا نركز في حل مشاكل التنمية والتطوير على الأمور "الخطأ" فنلقي ببرنامج ناجح وتستبدله بآخر نفس المواصفات ولا نرى تقدما.. ونستبدل وقتاً بوقت ومالا بمال وجهدا بجهد ومشروعاً بمشروع ولا نرى تقدما..

الأمر يتعلق بالثقافة والمجتمع فركزوا عليها وادرسوها.. ابذلوا فيها وقتاً وجهداً ومالاً وأرى أنكم سترون مؤشر التطوير يرتفع ..

هنا قد تكمن الحقيقة .. وقد ضاعت بين أبي السمح والشيحي ومن يستبدلون مشروعات بأخرى.. الثقافة بعد آخر في عملية التنمية والتطوير وهي في تقديري لم تحظ بالاهتمام الذي يجب أن تحظى به كعامل مؤثر في التنمية. كل ما نعمله هو أننا نسير في اتجاه واحد نستبدل مشاريع بأخرى قد يكون لها نفس معايير الجودة ويبقى مؤشر التقدم مراوحاً في مكانه. لماذا لا نغير اتجاهنا يميناً أو شمالاً ونبحث عن أسباب أخرى تعيق تقدمنا بالرغم من صرفنا الهائل على مشروعاتنا؟

الثقافة أحد المتغيرات التي أرى أن لها تأثيرا كبيرا على تقدمنا. كيف؟ الأمر يحتاج إلى دراسات وتحليل لهذه القضية. الثقافة مثل الأرض لا يمكن أن تنمو فيها النبتة إذا لم تحل مشاكلها ويتم تعهدها بالرعاية التي تحتاجها وإلا ذبلت النبتة. هناك فرضيات واضحة في كيفية تأثير الثقافة والمجتمع وفرضيات تحتاج إلى اختبار ولا بد من اختبارها. لنا فترة طويلة وبعض قطاعاتنا (حتى لا أقول كثيرا منها) تراوح في مكانها ولم يتحلحل مؤشر التطور فيها. أرى أن قضية الثقافة هي السبب وأرى أن الإخفاق يتعلق بها لكنني لا أعرف كيف ولا ما هو الحل. فقط أعرف أنه لا بد من دراسة وبحث هذه القضية وكيف يمكننا تحويلها إلى لاعب أساسي في ارتفاع مؤشر التنمية بدلاً من أن تكون لاعبا أساسيا في بقائه مكانه. وأرجو أن يتفق معي الأخوان الكريمان في هذا الأمر.