ذكرنا في الحديث السابق أن المتغيرات التي حدثت في عدد من البلدان العربية تبنت مطالب براغماتية، غابت فيها الدعوات لانتهاج سياسات تنموية مستقلة، ولم يرفع شعار تحرير فلسطين. هل تكون القراءة شافية بالقول إن المتغيرات هي استجابة لنداء الداخل، ورد على ظاهرة الفساد والاستبداد، وتغييب حقوق الناس، وانعدام العدالة الاجتماعية، ووصول حالة التنمية لطريق مسدود؟
سيصدمنا أن ما حدث هو نتاج تفاعل خلاق بين الهوية الوطنية والعربية، وأنه ربما لن يقدر له أن يتمدد لبلدان عربية، لو لم يتمكن التونسيون من عبور البرزخ، وما كان له أن يتسع بالسرعة التي شهدناها، لولا الأداء الفريد لشباب مصر. صحيح أن معظم الحركات السياسية العربية، وقفت في العقود الأربعة الأخيرة خارج التاريخ، وأن اليافعين مثلوا بصدق نبض حركته، لكن تكلس النخب السياسية القديمة لا يكفي لتبرير عدم اقتناص الحركة الشبابية لجدل العلاقة بين الانتماءين الوطني والعربي، لمعالجة المشكلات القطرية.
ربما يكمن عدم قدرة الحركات الشبابية على وعي هذه العلاقة، أن هذه الحركات لم تمتلك في الأساس، مشروعاً سياسياً، وأن جل اهتمامها تركز على تغيير النظام، من دون رؤية واضحة لما ينبغي عمله بعد ذلك. إن غياب المشروع السياسي لدى الشباب هو الذي مكن المعارضات السياسية التقليدية، من إخوان مسلمين وليبراليين وقوميين ومن أتباع الأحزاب الحاكمة، من اختطاف هذه التحولات وتوجيه بوصلتها، وتجيير نتائجها لمصلحة مشاريعها الخاصة.
لقد شغل الجميع بالثورات العربية وهي تتداعى الواحدة بعد الأخرى، بكرنفالات التغيير. وفي غمرة الابتهاج غابت الأسئلة عن مستقبل هذه الثورات وعن غياب مشاريعها السياسية. وربما ذهب بعضنا حد التصور أن هذا الغياب هو موقف إيجابي محمود، بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف أوصلت الحركات السياسية التقليدية التي قادت مشاريع النهضة العربية أمتنا إلى طرق مسدودة، حيث فشلت في معالجة معظم قضايانا الملحة، بما في ذلك مشاريع التنمية ومواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني، وأنه قد حان الوقت ليمسك الجيل الجديد بزمام مقاديره.
لقد فشلت مشاريع التنمية، ومعها فشل مشروع العدل الاجتماعي، واتسعت الفروق بين الغنى والفقر، وسادت في معظم البلدان العربية أنظمة مستبدة، مارست قمع الحريات، وكممت الأفواه، وحاربت الاجتهاد والإبداع. ولم يكن دورها في مواجهة التحديات الخارجية، بأفضل من معالجتها لأوضاعها الداخلية.
ساد شعور إيجابي عام لدى المواطن العربي بأنه لو لم يكن لتحركات الشباب سوى تحريك المياه الراكدة في الواقع العربي لكفاها ذلك، لكن تطور الأحداث، فيما بعد أفرز جملة من الحقائق، التي تجعل من المهم والضروري إعادة قراءة وتقييم ما جرى، من أحداث لا تزال تتداعى بقوة، في بقاع كثيرة من البلدان العربية، بروح نقدية.
أولى هذه الحقائق، هي الحديث عن دور مواقع التواصل الاجتماعي، "فيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب". هل فعلاً يزجى لهذه المواقع معظم التحولات التاريخية التي حدثت في بلداننا العربية في الأشهر الثلاثة الأخيرة؟ إن التسليم بذلك، من وجهة نظرنا، هو تسطيح بالغ الخطورة لفعل التاريخ. فثورات الغضب، سابقة على منجزات ثورة الاتصالات. والتجربة التاريخية، تؤكد أن الفعل الإنساني، هو نتاج عمل تراكمي وجدلي، لا يسير وفق آلية أو تراتبية معينة، بمعنى استحالة استعارة أية تجربة إنسانية فوارة، وإعادة تكرارها مرة أخرى، في موقع آخر، وضمن بيئة مختلفة، حتى وإن بدت مشابهة، فليس للتاريخ أن يعاود خطاه بذات الآلية والتراتبية.
المؤكد أن المتغيرات السياسية، اتخذت منحى براغماتياً بامتياز، حيث غابت المواقف والشعارات الأيديولوجية، ولم تطرح أي برامج سياسية، ويعود ذلك بشكل رئيس، لغياب التجربة التاريخية لهؤلاء الشباب، وأنهم بقوا أسرى لسرعة تداعي الأحداث من حولهم.
كانت النتيجة أن الذين حصدوا نتائج ما حدث هم قوى سياسية واضحة المعالم. طرح بعضها برامجه وأفكاره السياسية منذ أكثر من ثمانية عقود. وهم لا يترددون عن إقامة التحالفات مع أعداء الأمس. وقد أقاموا تحالفات مماثلة في الأربعينات من القرن المنصرم، مع حكومة إسماعيل صدقي ضد التيار الليبرالي الذي مثله آنذاك حزب الوفد، في مصر، ونظام الرئيس عبد الناصر، قبل أن يفترقوا معه بعد عدة شهور من استلامه السلطة. وبالمثل تحركوا في تونس باسم حركة النهضة، ويحاولون الآن حصد نتائج التحول في تونس، بالقفز إلى مقدمة الهيئات الصانعة للقرار السياسي في هذا البلد الشقيق. في ليبيا أيضا، لم يعد الممسكون بزمام الأمور هم الشباب الذين أشعلوا جذوة التغيير، ولكنهم جبهة الإنقاذ وحزب العدالة الليبي ومجموعات منشقة عن العقيد. ولمعظم هؤلاء ارتباطات واضحة بالخارج، وبعضهم عمل مستشاراً في منظمات غربية، بضمنها محكمة الجنايات الدولية، وقد مكنهم ذلك من التنسيق والتعاون مع ما يعرف الآن بالتحالف الدولي، لضرب كتائب العقيد.
أما اليمن فخريطة القوى السياسية وولاءاتها الإقليمية والدولية معروفة للجميع، ولا ضرورة للحديث بالتفصيل عنها. وليس سراً ضلوع الإدارة الأميركية في مباحثات ووساطة بين الثوار ونظام الرئيس اليمني علي عبدالله الصالح، لتأمين انتقال سلمي للسلطة.
تأتي عواصف التغيير، وسط غياب للهتافات الصاخبة التي اعتاد عليها الشارع العربي، الداعية بالموت لأميركا و"إسرائيل". إن هذه الظاهرة أصبحت هي القاعدة، ولم يشذ عنها حتى البلدان التي تقع على حدود التماس مع الكيان الغاصب، في وقت لا يزال الجيش "الإسرائيلي" يمارس سطوته وعربدته على أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد بحرب لا تبقي ولا تذر في لبنان.
ولأن المشروع النهضوي العربي، والتنمية والعدالة وتحقيق التكامل الاقتصادي وبناء الدولة العربية المعاصرة، ومواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، هي قضايا وجود، فلن يطول بنا المقام ليعود لها ألقها وسابق حضورها، وليس علينا سوى الانتظار.