كتبت هنا منذ بضعة أسابيع تحت عنوان "جدة التاريخية تحتضر" ويوم الجمعة الماضي زرتها فوجدتها في النزع الأخير، وفي مساء اليوم نفسه التقيت عاشقا مخلصا لهذا المكان، ولهذا فهو يراقبه بعين المحب وعقل المتأمل وتطلع الحريص وطموح المخلص، وسأنقل لكم خلاصة ملاحظاته واستفساراته حول هذا الموقع التاريخي الفريد الذي ـ كما يبدو ـ سيظل الجميع يتفرجون عليه إلى أن يتآكل وينقرض، وقبل أن أقدم هذه الملاحظات والاستفسارات أود أن أشير إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: إن "الدرعية" كانت وما زالت تحت مسؤولية أمانة الرياض وتحت إشراف الهيئة العليا لتطوير العاصمة، وقد نجحت الأمانة في الحفاظ عليها وصيانتها وتطويرها، إلى أن نجحت هيئة السياحة في تسجيلها ضمن التراث العالمي في "اليونسكو".
الثانية: إن هيئة السياحة لا تملك لا في تنظيمها ولا في صلاحياتها ولا في ميزانيتها، ما يخولها أن تتولى شراء أو تطوير المواقع التاريخية، فمهمتها تنحصر في استثمار هذه المواقع عندما تكون جاهزة للدعاية لها سياحيا من جهة، وللعمل على تسجيل المستحق منها ضمن التراث العالمي، والهيئة حذرت ونبهت وصرخت بما يكفي ويفيض حول تهالك "جدة التاريخية" ومؤخرا اضطرت إلى تأجيل تقديمها لـ"اليونسكو" لأن وضعها المزري لا يسمح.
والآن تعالوا إلى استفسارات وملاحظات العاشق الواعي:
أولا: "جدة التاريخية" مسؤولية أمانة جدة، ومنذ أكثر من أربعين سنة بدأت الأمانة اهتمامها بها، وذلك أيام المهندس محمد سعيد فارسي، لكن بعد الفارسي لم تعط حقها بل أهملت إهمالا واضحا، فأين الخلل؟ إدارة جدة التاريخية في الأمانة هي نفسها منذ أكثر من ربع قرن، فهل الخلل في هذه الإدارة أم في الأمانة التي لا تدعمها أم في وزارة البلديات التي لم تكترث بجدة التاريخية حتى الآن؟
ثانيا: الأمانة منعت بعض ملاك البيوت في هذه المنطقة من الاستفادة من أملاكهم بينما منحت آخرين رُخص بناء أسمنتية ـ أي هدم القديم والبناء مكانه ـ وهذا مُشاهد بالعين المجردة.
ثالثا: تم ترميم بعض البيوت هناك ترميما أبسط ما يقال عنه أن هدفه ـ ذر الرماد في العيون ـ، وإلا فمن هو المستثمر الذي سيستأجر أي بيت مرمم من أجل إعادته كما كان بدون خدمات حديثة تسمح باستغلاله كمتحف أو معرض أو مطعم بدون الحد الأدنى من الخدمات التي يحتاجها المستثمر وزبائنه مثل المصاعد والخدمات البديهية الأخرى.
رابعا: تتنازع ملكية جدة التاريخية ثلاث جهات حكومية هي الأمانة والشؤون الاجتماعية ـ الأربطة ـ والأوقاف ـ البنايات الموقوفة ـ إضافة إلى بعض الملاك من المواطنين، وكل الجهات الأربع تتنافس في الإهمال الشديد.
خامسا: رئيس بلدية جدة التاريخية لا تخرج واجباته وصلاحياته عن تلك المعطاة لزميله في أي بلدية فرعية أخرى فهل هذا يُعقل؟ إن هذا لا يُعقل لكنه يضاف إلى فهم الأمانة عن أهمية المكان وبالتالي ينسجم الأمر مع إهمالها الواضح لهذا الموقع المهم الذي من البديهي أن يكون لرئيس بلديته مهام وصلاحيات أكبر وأوسع.
سادسا: العمالة السائبة كانت وما زالت الشماعة التي تُعلق عليها أسباب الحرائق والاستخدام السيئ، وهذه شماعة الفشل الواضح التي تتكئ عليها الأمانة دائما، فهي بإهمالها من أغرى التسيب كله، وإلا أين آلاف العمالة النظامية في أضخم وأهم مركز تجاري في جدة بل في منطقة الخليج بأسرها، وأهم منطقة تاريخية في العالم.
وأخيرا فإن اللجان التي تجتمع وتوصي وتطلب خلال الفترة القريبة الماضية، كان لها نظير مماثل من اللجان منذ نحو ربع قرن والذي تغير هو أسماء وأشخاص المسؤولين ولو تمت مقارنة المحاضر والتوصيات التي تضمنتها لوجدناها متطابقة مع اختلافات طفيفة في الديباجات والصياغة لا أكثر، مما يعني أن التغيير المنتظر داخل الأمانة حيال جدة التاريخية لم يتغير، ولن يتغير ما لم نجد وزير البلديات الأمير منصور بن متعب شخصيا يداوم في جدة التاريخية أسبوعيا إلى أن يتم تسجيلها في "اليونسكو"، وأعتقد أن الأمير منصور يعلم أن الأمر يستحق أكثر من الدوام.