يلفت انتباهي بالأمس، أغلى أساتذة مشواري مع الكتابة إلى: تلمس الفرق بين من يفكر بعقله ومن يفكر بعاطفته وبين الكتابة بالعمق وبين السطحية. وبكل التأكيد، فإن أستاذي العزيز يدرك بخبرته الطويلة مع المهنة ومع الكتابة أن الأقلام تشطب كلمة كي تكتب الأخرى وتناور بجملة كي تستطيع أن تمرر الجملة التالية. نحن لسنا أنفسنا تماماً عندما نكتب. ونحن مع الكتابة نشبه المؤشرات البيولوجية لطبيعة وظائف وعمل المكونات الجسدية. نحن نعمل برئة واحدة وهذا يكفي لبقاء دورة التنفس. نحن لا نكتب برئتين كاملتين. نحن نكتب بربع كلية وهذا هو الحد الأعلى الذي يسمح بغسل السموم من أجسادنا. نحن لا نكتب بكليتين. نحن نكتب بربع عضلات القلب وهذا يكفي ـ في هذا العمر ـ كي يصل الحد الأدنى من دورة الدم إلى بقية أجزاء الجسد. نحن لا نكتب بقلب كامل لأن الحد الأدنى من دورة الأحبار في المطابع الرسمية هو ذاته الحد الأعلى المسموح به وسط هذه الشرايين الضيقة في ضغط مرتفع. نحن نكتب تماماً مثلما هي آخر الاكتشافات بثلث مساحة المخ وهذا هو الحد الأعلى المسموح به لاستعمال الدماغ الإنساني. نحن لا نكتب بمخ كامل مكتمل. نحن لو أننا في الكتابة قد استخدمنا كامل قوانا العقلية وكل الطاقة التي تسمح بها طبيعة وظائف أعضائنا البيولوجية لكنا اليوم ـ كمداً ـ إما في القبور، أو على أسرة العناية المركزة في أحسن وأفضل الأحوال التي تجود بها هذه المحاذير الهائلة المختلفة من حولنا عندما نكتب.
ويعلم أستاذي الكبير قصته الخاصة جيداً مع المحاذير، مثلما يعلم تماماً أن قصة الكتابة ـ نفسها ـ أسهل وأبسط مما يتصور آلاف القراء الكرام الذين يقبلون اليوم مجرد أرباع وأخماس طاقتنا للكتابة. لكن أبرز شروط الكتابة التي تحترم صاحبها قبل احترام الجمهور ليس إلا شرطي الاستقلال والحرية. وبالطبع فإن هناك فارقا جوهريا ما بين مصطلحي الاستقلال وبين الحرية. الاستقلال إرادة فردية خاصة يمكن محاسبة الكاتب أو المثقف على الدرجة التي يختارها لنفسه في سلم الاستقلال عن تجاذبات المصالح والمنافع أو روابط المدارس الفكرية التي ينتمون إليها. وحين يكون ـ الاستقلال ـ قرارا فرديا فإن الحرية على النقيض، هي هدية المجتمع والأنساق والسلطة، وما المثقف في هذه المنظومة إلا حارس استقبال للقيود والمحاذير. نحن لا نكتب لنطبع أفكارنا في الغرفة المنزلية المجاورة. الكتابة في العمق هي الحرية، بينما الكتابة بالعاطفة هروب إلى الاستقلال.
يعلم أستاذي الكبير، أننا نكتب لمجتمع مكبل لنفسه بعشرات المحاذير مثلما يعلم أن الرقيب الاجتماعي قاتل لآلاف الأفكار التي يتناولها أصحابها بأرباع وأخماس الطاقة. يعلم أستاذي الكبير أن الفوارق ما بين كاتب وآخر يتناولون ذات القصة وذات القضية إنما هي فوارق ـ الشرود ـ مثلما يعلم أن الكاتب – الأجرأ – في (قصة اليوم) لن يستطيع تكرار ذات المقدار من الجرأة عند صباح الغد. يعلم أستاذي الكبير أن ـ ربع الجرأة ـ ولكن تحت العيون قد تكون أكثر جرأة من ـ الجرأة الكاملة ـ حين يكون صاحبها في مكان آخر لم تعتد ذات العيون أن تنظر إليه، وإن نظرت إليه فإنها لا تأخذه على محمل الجد. يعلم أستاذي الكبير كم أرهقتنا ذات الأضواء الكاشفة التي كانت مجرد ـ نور ـ لإضاءة دروب الآخرين وكانت علينا أشعة حارقة في ظهيرة يوم قائظ ملتهب. يعلم أستاذي الكبر أن أيامنا هنا، ووحدنا، كانت ظهيرة يوم استوائي لا تنزل فيه حرارة القيظ درجة واحدة طوال أيام السنة.
يعلم أستاذي الكبير، أنني لم أتبدل ولم أتحول، بل أزعم أنني على ذات الدرجة القديمة التي يعرفها عني في سلم الاستقلال ولكنني أدعوه أن يقرأ معي سلم الحرية. نحن أستاذي الكبير سنكتب في العمق وسنكتب بالعقل ولكنها قصة ـ وظائف الأعضاء ـ التي أشرت إليها في بداية هذا المقال وجميل جداً أن نصف رئة مازالت تعمل وأن كلية واحدة مازالت تنفث السموم وأن عضلة القلب مازالت تصل بربع الانقباض وأن مساحة مقبولة من حجم المخ مازالت تحرك هذه الأعضاء وتحرك هذه القضايا في وسط هذه الظروف وبين هذه المحاذير الاجتماعية. لك أن تحاسبني أستاذي على ما أملك لا على ما لا أملك: على درجة الاستقلال لا على درجة الحرية.