مثلت حالة العزلة والتنسك الشخصي بعدا روحيا وفكريا مهما في جميع الثقافات الإنسانية،حتى تحولت في بعض الأديان والمذاهب إلى شرط رئيسي للنقاء الروحي والإبداع العقلي ، فجاء الإسلام وأعاد النظر في هذه الممارسة بترسيخ ثقافة "العمل عبادة" .
أما في مجال الأفكار الإبداعية فلاشك أن العزلة والاختلاء الطويل مع النفس قد يولد أفكارا خارقة للعادة ويعطي المنتج بعدا فكريا عميقا . ولكن في المقابل هناك عزلة مؤذية في نتائجها لا على الشخص المعتزل فقط بل إن أثرها على المجتمع أكثر سلبية، لأن هذه العزلة - بعكس ما ذكر سابقا ـ لا تعطي الشخص مجالا للتفكر بروية وتدبر، ولا تمكنه من وزن الأمور كما هي . بل تجعله يندفع في أطلاق الأحكام على الآخرين وهو في مكان قصي عنهم .
ومن نماذج هذه العزلة السلبية - إن صحت التسمية - ما نشهده من أحكام قطعية وربما فتاوى، ضد فئات اجتماعية أو فكرية شريكة في الوطن، بناء على السماع أو النقل غير الدقيق أو حتى "المغرض" ، الذي يهدف إلى التشويش والبلبلة ، وربما التفريق وضرب الوحدة الوطنية ، فهذه الأحكام التي تصدر دون معايشة أو مخالطة واقعية،لمن وجهت ضدهم،ودون الاستماع لهم بشكل موضوعي وعلمي ،عادة ما تأخذ لغة متطرفة وأحادية لا تقبل الأخذ والرد، وبالتالي تشكل تهديدا كبيرا للنسيج الاجتماعي الوطني،خصوصا عندما تصدر من شخصية ذات حضور اجتماعي أو ديني، فهي نواة لتطرف وتطرف مضاد ضد المختلف أيا كان ، حتى وإن كان حدود الاختلاف هوامش فكرية تعايش معها المسلمون ما يزيد على ألف عام ، وفي فترات استقطاب سياسي وظفت مذهبيا ، لتحقيق الهدف السياسي لأفراد طامحين للحكم لا أكثر ولا أقل،ولم يدفع ثمنها دما إلا "المستضعفون في الأرض" .
المشكلة أن من يتطرف ضد الآخر بنشر هذه الآراء ،يعتقد أنه يحقق الانتصار ويسحق الآخر، ولا يعي أن الآخر سيتطرف ضده بنفس الدرجة وربما أكثر.
وفي النهاية يدخل المجتمع في صراع خفي وعلني، تنعدم فيه الثقة، وتسود الشكوك والتوجس المتبادل، وتتعطل مسيرة التنمية، وكل هذا بسبب آراء أطلقت من برج عال أشبه بـ" الصومعة" .