مسيرة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، التي قادته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، المعروفة بـ"الهجرة النبوية"، هذه المسيرة التي كانت منعطفا في تاريخ الإسلام وجزيرة العرب، هي اليوم مدار بحث ونقاش بين الباحثين التاريخيين، والجغرافيين، حول معالم الطريق التي سلكها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، في هجرته، وما إذا كانت الخرائط الحالية، التي تأرخُ لهذه المسيرة، تقتفي أثرها الفعلي، أم أنها مجرد اجتهادات بحثية، قد يشوبها بعض الخطأ، أو تنقصها الدقة في شيء من تفاصيلها، خصوصا أن تلك المرحلة لم تدون حيثياتها إلا في وقت متأخر، وليس في زمن البعثة الشريفة.

خرائط خاطئة

فقد ذهب الباحث في معالم المدينة المنورة التاريخية، عبد الله بن مصطفى الشنقيطي، إلى أن الخرائط التي رسمت مسار طريق "الهجرة النبوية"، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لا تعكس الطريق الفعلي والصحيح لمسار الهجرة. مؤكدا في حديث مع "الوطن" أن بعضها "محض تخيلية"، كما في كتاب الدكتور حسين مؤنس "أطلس تاريخ الإسلام"، و"البعض الآخر اجتهاد غير موفق" بحسب رأي الشنقيطي، ضاربا مثالا بالخارطة الموجودة في "أطلس التاريخ العربي الإسلامي"، للدكتور شوقي أبو خليل، وكذلك الخارطة التي وضعها الأستاذ سامي المغلوث، في كتابه "الأطلس التاريخي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم". ولم تنجُ من سهام نقد الشنقيطي أحدث الخرائط، والتي وضعها "مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة"، حيث يرى الباحث أن معديها وضعوها بناء على ما جاء في كتاب "على طريق الهجرة"، لمؤلفه الشيخ عاتق بن غيث البلادي، مؤكدا أنهم "لو عادوا إلى المصادر الأصلية، مثل سيرة ابن هشام، والطبقات الكبرى، وابن كثير، وغيرهم لتبين لهم خطل هذا الرأي". ولم يستبعد الشنقيطي "أن يكون الشيخ عاتق قد رجع عنه، خصوصا وأن كتابه المذكور صدر قبل حوالي أربعين عاما، والخطأ في هذا المسار المرسوم واضح جدا للمختصين".

تقصير المعاصرين

الشنقيطي استغرب أيضا من "عدم قيام أحد من المؤرخين المتأخرين، بتتبع هذا الطريق منزلا منزلا،ومعلما معلما، من غار ثور حتى قباء"، رغم أن المحدثين و المؤرخين الأوائل "وضعوا أبوابا في كتبهم عن الهجرة النبوية، وأبرزوا كذلك الأحداث والمعجزات التي أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بها، أثناء تلك الرحلة المباركة. وقد تمت كذلك تسمية منازل الطريق في مؤلفات المحدثين، وأصحاب السير، وهو ما يبرر السبب في كون الخرائط الموجودة الآن لا تعكس الطريق الفعلي الصحيح، لمسار الهجرة".

خطأ الـ35 كلم!

هذا التقصير في رأي الشنقيطي، الذي قاد إلى "أخطاء" عدة، وقعت فيه إحدى الصحف، حيث بحسب ما يرويه، فإنها "عرضت بعض الخرائط التي تشير لبداية الطريق من جبل ثور، حتى قديد" مشيرا إلى "وجود خطأ في مرحلة من الطريق، طولها حوالي 35 كلم، تبدأ من أعلى وادي القاحة حتى ثنية الغائر (ركوبة)، ليتضح مدى الفرق بين ما جاء في الروايات الصحيحة، و بين ما أظهرته خريطة المركز". وذهب في استدلاله على وجود تلك الأخطاء إلى أن "كل كتب السيرة النبوية، وبألفاظ متقاربة، جاءت بأن النبي صلى الله عليه وسلم، أجاز الفاجة، و يقال القاحة، ثم هبط بهما العرج، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم، يقال له أوس بن حجر الأسلمي، على جمل له يقال له ابن الرداء، إلى المدينة، و بعث معه غلاما له يقال له مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك بهما ثنية الغائر، عن يمين ركوبة، حتى هبط بهما بطن رئم". وهو ما يشير بوضوح بحسب رأي الباحث الشنقيطي، إلى أن "النبي سلك طريق الجادة العظمى، وهي طريق الأنبياء، من أعلى وادي القاحة، عند الطلوب، والتي تسمى الآن (الحفاه) حتى هبط العرج". و"العرج" أحد أشهر منازل "الجادة العظمى"، والذي يدعى الآن "النظيم". إلا أن الخارطة التي نشرتها الصحيفة، جعلت كما يقول الشنقيطي "مسار الطريق من الحفاة على شعب فيد، ثم العقنقل، ثم الحلق، ثم الغائر"، وهذا "ليس طريق الهجرة النبوية، كما هو واضح من النص السابق. و إنما هو طريق مختصر إلى الغائر، والذي لم يرد له ذكر في العصور الأولى، وقد أصبح طريقا تأخذه الرجالة، وخفاف المطايا، في العصور المتأخرة، وآخر من كان يسلكه (الركب الرجبي) وهو تقليد كان متبعا، حيث يأتي ركب من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في شهر رجب من كل عام، على ظهور الدواب، وآخر ركب قدم المدينة شاهدته في حدود عام 1384هـ".

مراحل منسية

ويرى عبدالله الشنقيطي، أن "هناك مراحل أخرى من طريق الهجرة النبوية، لم تظهر على الخريطة بالشكل الصحيح، الوارد في الروايات المتطابقة"، مستغربا من "قيام هيئة المساحة الجيولوجية، باعتماد ذلك المسار، حيث أنتجت أطلسا أسمته أطلس طريق الهجرة النبوية". وكان المسلمون كما ذهب عبدالله الشنقيطي، قد "اهتموا في جميع العصور بتدوين تفاصيل السيرة النبوية، بدءا من مولد سيدنا محمد، إلى حين و فاته. و سجلوا التفاصيل الدقيقة لتحركاته، وأفعاله، وأقواله".

إعادة النظر

وفي سعيه لتصحيح ما يراه خطأ، أهاب الشنقيطي بـ"الباحثين في مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، خصوصا وأنهم من أصحاب الكفاءات و التميز البحثي، أن يعيدوا النظر في تلك الخريطة، و يعرضوها على ما ورد في النصوص التاريخية الموثوق بها، خصوصا أن دارة الملك عبد العزيز تعكف الآن على وضع أطلس للحرمين الشريفين، وسوف يكون أطلس طريق الهجرة النبوية في صدارة ذلك العمل".

استعجال تعميم

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، الدكتور سليمان الرحيلي، أيد ما ذهب إليه الشنقيطي، في نقده لخارطة "مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة"، وعدد آخر من الخرائط التي وضعت عن طريق "الهجرة". وذهب إلى أن "الخريطة التي أعدها المركز فيها عموم واضح"، مؤكدا أن "بعض الأسماء الواردة فيها بها تصحيف، وكذلك بعض المسميات وردت عامية، حيث لم ترد بالمصادر المعتبرة". الرحيلي، والذي سبق له وأن قدم بحوثا نقدية حول عدد من الخرائط التي وضعت عن المدينة المنورة، أشار أيضا إلى أن "خارطة مركز بحوث ودراسات المدينة، فيها استعجال. إذ إن طريقا طوله قرابة 400 كلم لا يمكن تحقيقه علميا ومنهجيا برحلتين أو ثلاث، أو حتى شهر أو شهرين"، مشيرا إلى أن الخارطة "خلت من مقياس الرسم. والمصادر التوثيقية لها، ويمكن أن توصف تلك الخريطة بأنها خريطة تقريبية، أكثر من أي شيء آخر".

فقدان الدقة

من جهة أخرى، أفاد الرحيلي بأن "الخرائط التي وردت في أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مونس، حول المدينة المنورة ومنطقتها، كانت خرائط غير دقيقة تماما، وبعضها خاطئة"، مبينا أنه "في مرحلة من المراحل، كانت لديه إحدى الخرائط التي تشير إلى أن الطريق السلطاني هو الطريق الذي كان يقع غرب بدر، وهذا الأمر غير صحيح إطلاقا".


 



خارطة توضح طريق "الهجرة"






نقوش تقع ضمن منطقة وادي "ريم" المرتبط بطريق الهجرة