فجأة خيم الظلام على وجه ابن زميلي. انقطعت ابتسامته التي كانت تضيء صدورنا. لم يعد يتكلم عن فريقه المفضل بحبور كما في السابق، بل لم يعد يتكلم إطلاقا. عندما سألت أباه عن سر اختفاء ابنه الذي نعرفه أجاب وهو يحاول أن يعثر على سيجارته أن ابنه حصل على درجة متدنية في الرياضيات. والأسوأ من الدرجة حسب الأب أن ابنه عندما ذهب لمراجعة رئيس قسم الهندسة الميكانيكية ليستأنس برأيه خرج خائبا. فقد نصحه أن يبحث عن تخصص آخر ولعله يكون أدبيا. دراسة الهندسة الميكانيكية لم تكن مجرد حلم لابن زميلي بل كل شيء في حياته. فهو يرى أنه مهندس منذ أن كان طالبا في المرحلة المتوسطة. لم يتبق كتاب باللغة عن العربية عن تخصصه لم يقتنه. صار التخصص يلاحقه قي يقظته ومنامه، لكن لقاءه برئيس القسم أجهض مستقبله. توقف كل ما حوله في لحظات. حاول والداه أن يخرجاه من حالته المعنوية المتردية دون جدوى. أصر الابن أن يترك الجامعة. لم يعد يحتمل أن يشاهد أستاذ مادته ولا رئيس القسم مرة أخرى. أضرب عن الدراسة لمدة أربعة أشهر قبل أن يعود إليها أكثر إصرارا وحماسا للحصول على درجات مرتفعة. الأسبوع قبل الماضي احتفل ابن زميلي بتخرج ابنه رسميا وحصوله على درجة البكالوريس في الهندسة الميكانيكية. هنأت والده والفرحة تملأ صدره وصوته. وتذكرنا معا المرارة التي تجرعها ابنه في البداية والتي كانت الشرارة وراء تفوقه ونجاحه في النهاية.

يوما بعد يوم يزداد إيماني بأن التميز لا يأتي دون أن نتجرع مرارة الفشل. يوما بعد يوم تزداد قناعتي بأن التعثر يصنع منك متسابقا أشد بأسا. لو تصفحنا سير الناجحين من حولنا لوجدنا أن كل واحد منهم لديه قصة حبلى بالمعاناة رافقت بداياته وساهمت في صنع النجاح الذي يعيش فيه. الإخفاقات وقود ودافع للمثابرة. إن الأجنحة التي لا ترفرف لا تطير. فمن أراد أن يمخر عباب السماء فعليه أن يحتمل الألم. هذا الألم هو الذي سيحمله إلى الأعلى.

الأميركي، روبرت ستيرنبرج، يعشق علم النفس بشدة. التحق بجامعة ييل الشهيرة ليشبع نهمه ويحقق ذاته، لكنه اصطدم بحصوله على درجة منخفضة في مبادئ علم النفس. ومازاد الأمر سوءا وتعقيدا هو أن أستاذه أكد له أنه "لا يملك موهبة حقيقية". دخل ستيرنبرج في نوبة بكاء طويلة لم تنته إلا عندما غير تخصصه إلى الرياضيات لعله سينسى (علم النفس) ويعيد اكتشاف نفسه، لكن صوتا في داخله كان يلح عليه بالعودة إلى تخصصه الذي يعشقه ورد اعتباره من أستاذه. رضخ ربرت لعقله الباطن وعاد لعشقه الأول بعد فصل دراسي مرير. درس مجددا المادة الأولى التي حصل فيها على درجة (سي) أو (ج) كما في قاموسنا وكانت النتيجة الدرجة الكاملة. الدرجة الكاملة كانت هي نتيجة كل المواد التي أخذها ستيرنبرج في الجامعة لاحقا. تخرج في عام 1972 بتفوق مع مرتبة الشرف الأولى. كان محل إعجاب أغلب أعضاء هيئة التدريس في قسم علم النفس منذ عودته لأحضانه. كانوا يرون فيه عالما واعدا. لم يخذلهم. حصل على الماجستير ومن ثم الدكتوراه بسرعة قياسية عام 1975 من جامعة ستانفورد. وحصل لاحقا على خمس شهادات دكتوراه فخرية من جامعات عالمية، ونال 21 جائزة علمية من عدة مراكز بحثية ومنظمات دولية. نشر منذ عام 1976 حتى اليوم نحو 950 بحثا علميا وكتابا في الإبداع، والذكاء العاطفي، وأنماط التفكير، والفلسفة النفسية، ولديه أكثر من 50 بحثا تحت الطبع. وتجاوز الدعم المادي الذي حصل عليه من المؤسسات البحثية أكثر 20 مليون دولار أميركي. ويعتقد ستيرنبرج (62 عاما) أن (اللكمة) التي وجهها له أستاذه كانت أكبر دافع له لتحقيق هذه الإنجازات العلمية والثأر من وصفه "بعدم الموهوب". لو استسلم ستيرنبرج لسقوطه المبكر لما عرف التاريخ عالما فذا كستيرنبرج.

إن البدايات الصعبة لا تواجه الأكاديميين والمؤلفين فحسب، بل تواجه الجميع بلا استثناء. وتمنحنا أجنحة إضافية تحلق بنا في سماء الإبداع. فالممثل الأميركي جيري ساينفلد(57 عاما)، الذي حقق مسلسلة الكوميدي (ساينفلد) نجاحا تاريخيا حول العالم خلال عرضة لمدة 9 سنوات ابتداء من عام 1989 تعرض في بدايته لموقف كاد ينهي حياته الكوميدية. فعندما صعد إلى المسرح لأول مرة لارتجال بعض (الاسكتشات) الكوميدية التي يحفظها عن ظهر قلب ويفضلها أصدقاؤه انتابته نوبة هلع قاتلة. جعلته يرتجف ويتصبب عرقا بغزارة، مما دفع الجمهور إلى المطالبة بإنزاله من المسرح على الفور. أصدقاء ساينفلد حوله كان يؤمنون بموهبته. طالبوه بنسيان ما فات والعمل على اعتلاء المسرح لتأكيد موهبته أمام الجمهور. تردد ساينفلد كثيرا، لكنه فعلها. صعد في اليوم التالي إلى نفس المسرح. خلع وجوه الجمهور الذين لا يعرفهم واستبدلهم بوجوه أصدقائه في مخيلته. وحقق نجاحا مدويا استمر حتى الفجر، لا بل إلى اليوم.

ليس كل الأبواب أوتوماتيكية، تفتح بمجرد توقفنا أمامها. إن أجملها وأغلاها ثمنا هي التي تتطلب أن نفتحها بأيدينا لنرى العالم الجميل الذي ينتظرنا خلفها. فمن أراد هذا العالم فعليه أن يدفع هذا الباب بيديه لينعم به ومعه. إننا تعلمنا عندما كنا أطفالا أننا إذا أردنا المشي علينا أن ننهض بعد أن نسقط. فمن الأحرى أن نسترجع هذه الذكريات عندما أصبحنا كبارا، وندرك أن هذا السقوط الجميل جعلنا لاحقا نسير، ونركض، وأحيانا نطير!