في كتابه "الذاكرة التاريخ النسيان"، يكتب بول ريكور "نتزود بالذكريات من أجل الأيام المقبلة، من أجل الزمان المخصص للذكريات". في مستودع الماضي يقبع جزءٌ غير يسير من حياتنا. نمضي عنه، ونظنّ أننا تركناه إلى مصيره؛ يفنى متحللاً في الغياب.. غير أننا في لحظةٍ أشبه بصاعقة تضرب ما حسبناه هشيما متذريّا، فينهض الماضي من العتمة ماثلاً تحت مصبّ الأنوار. فلا تعرف هل أنت في محطّة استدعاء منقطعة ومؤقّتة، أم أنّك لم تغادر من هناك أو غادرتَ وثمّة من تسلّل معاك في الخفاء، وبقي رابضاً منزويا ينتظر المثول. فقط شرارة نتعرّف في اندلاعها أننا بالفعل في "الزمان المخصّص للذكريات".

خالد السنديوني في كتابه "اللاعب" (دار الغاوون ـ بيروت، 2011) يشرع النافذة، ويطلق وردةً في الريح لم تزل عبقةً فوّاحة؛ نديّةً لم تصوّحها الشمس. يستحضر الشاعر جانبا من حياته وحياة أترابه في القرية. لا يسجّل بقدر ما يركّز على كادر صغير؛ يترعُهُ بالحياة ويمدّه بالتفاصيل ويريق عليه ماءَ الضوء، فيختمر ويندَى.. تقوم الصورة يخضّبُها الانفعال، تنفكّ من قيد المسافة. تغمرها المسافة بأضعافٍ من الوهج ربما لم يكن لو لم تكن هي الهاجعة بين قطبين؛ تحسب وتقيس، وعلى قّدْرِها تشتدّ بسالة عينُ الذاكرة في تلقّط الكادر وهوامشه.

كتاب "اللاعب" ليس مجازا ولا ظلا. إنه استدعاء سيريّ ذاتي وجمعي لعالم كرة القدم في حيّز ضيّق على هامش هذه اللعبة في قرية سرسنا بمحافظة المنوفيّة. لا يرصد الشاعر عالم لاعبي فريق قريته وفرق الجوار كمؤرخ أو كمتابع فني شأن إدواردو غاليانو في "كرة القدم في الشمس والظل" بل كمشارك ومنخرط يحضر بالاسم والصفة والهيئة والمآل. وربما هذا الاندغام بالجسد والهوى والوجدان هو ما ترك الأثر الغائر؛ يعمّقُهُ الزمن ويخلع عليه هالةً تعصف بشتّى المشاعر يتقاسمها الكاتب مع قرائه، إذْ لدينا كنزٌ محفوظ من الأسماء والأماكن تتصّل بهذه اللعبة.. فما انكتب في "اللاعب" من صور وأحوال نجد ما يضارعها في خوابي الذاكرة الخاصّة من حكاياتٍ منقوعةٍ بالنعناع أو الخل، أو تطيش في ماء الضحك أو تغيم في ضباب الأسى.

"اللاعب" كتاب شعري في مقام البورتريه. تقوم هندسته على الرسم.. الشعريّة تلتمّ من أبعاد الشخصية الخارجيّة ودورها في الملعب مصبوغة بالجانب الاجتماعي، بما يمنحها فرادة في محيطها الإنساني حيث لا تشبه غيرها سواءً في عاديّتها أو انزياحها إلى هوس أو جنون ملتصق بلعبة كرة القدم. من هذا التحديد، لا نلفي أنفسنا في كرة قدم وحسب، لكننا ننفتح على حيواتٍ غنيّة بإكسيرها الخاص وانوجادها في عالم متوتّر من الاندفاع والصخب والإخلاص الهذيانيّ أو العقلاني إلى حدّ معين، إلى عالم معاش بواقعيّته وانكساره على ضفاف النهايات والعمر القصير في ساحة اللعب؛ بإنجاز وبدونه: (أنا خالد/ ذهبتُ أبعد من الأسى وأبعد من النشوة/ ما زلت ألبس ملابس اللعب ـ دون حذاء ـ كل يوم/ وأخرج إلى ما أظنّ أنه ظهيرةُ حياتي/ ثم أبكي).