منذ السنة الأولى التي التحقت فيها بالتعليم الجامعي استرعى انتباهي التعصب السلبي للمناطقية والقبائلية. وبعيداً عن الاستدلال بالشواهد لأنه أمر مفجع ومفزع أخشى أنه يبعدني عن تسليط الضوء على العلاج، لابد من القول إنني لم أسمع من جيلي أيام الدراسة في المدرسة والجامعة بهذه الأفكار وبكل تأكيد لم تعرفها الأجيال السابقة. لذلك أخذت أسأل نفسي بصوت مسموع هل بدأ التعصب للعصبية في الجامعة مثلاً.. أم في الأندية والمدارس أم أنه انعكاس لما في المجتمع؟ ولماذا أخذ هذا التعصب يتزايد نمواً في هذه الأيام؟ معرفة البداية ضرورية لأنها تحدد نوعية العلاج وأخذ جرعاته بحزم خاصة بعد أن أخذ التعصب طريقه إلى الإعلام.

لا أحد ينكر التمسك بالقبيلة ولا أحد يتجرأ على تقليل شأن القبيلة، لكن عندما يتصدى أستاذ جامعي على سبيل المثال فيدافع عن كاتب أو شيخ في فضائية في تهمة وجهتها له إحدى الدول لأن الشيخ من جماعته أو قبيلته فذلك مؤشر خطير يبين مدى تعدي القبائلية وزحفها على الانتماء الوطني. وعندما تفسر الأخطاء والكوارث مناطقياً فذلك دليل على تحامل عنصري في النفوس. لذلك فإن هذه الأمثلة وغيرها كثيرة في مواقع الإنترنت والفضائيات والمطبوعات التي ترفع شأن جماعة وتقلل من شأن جماعة أو قبيلة أخرى، ما يعد نتيجة لتنامي العصبية وليست سبباً لها. وأقرب الأمثلة على ذلك ما قاله الدكتور طارق الحبيب في إحدى الفضائيات حول أبناء مناطق الجنوب والشمال، وما تبعه من تعليق وردود أفعال.

نحن فعلاً أمام مرض خطير حذرنا الرسول صلى الله عليه منه حيث نبذ العصبية ووصفها بـ (النتنة) ؛ لذلك لا يجوز أن (نتفرج) عليه لنتركه ينهش في قناعتنا ولا يجوز أن نتركه يشوه ويعيق الأجيال الشابة والأجيال القادمة. فمظاهر المرض واضحة للعيان ونسمع عنها من شكاوى المواطنين على تأثيرها في التوظيف والترقيات. وخير شاهد على خطورة مرض هذه العصبية هو تخصيص يومين للحوار بين أطياف من المجتمع حول موضوع القبائلية والمناطقية، خلال مؤتمر الحوار الوطني الأخير في جدة.

ولاستئصال هذا التعصب، أمامنا الآن أمران فقط فليس لدينا وقت نضيعه في الجدل والدراسات والأبحاث المطولة : الأمر الأول؛ البدء في تفعيل لائحة تجريم هذه العصبية وذلك بإصدار مسمى لقانون مكافحة العنصرية، يتضمن بنوداً واضحة لتعريف حدود الجريمة وتحديد نوع العقوبة. الأمر الثاني؛ البحث عن مكان وبدايات تواجد جذور العصبية والتصدي لها في أعماقها ومن ثم مواجهتها ببرامج إعلامية وتنموية وثقافية تؤدي إلى تجفيفها بكل مظاهرها في كل مكان.