لعلك تابعت خلال الأيام القليلة الماضية الاضطرابات العنيفة التي تشهدها اليونان على خلفية عزم الحكومة على تبني إجراءات تقشف جديدة تشمل عزل نحو خُمس موظفيها، وتقليص خدماتها الأساسية للمواطنين، وذلك استجابة لآخر دفعة من طلبات شركائها في الاتحاد الأوروبي (وصندوق النقد الدولي)، كشرط لخطة الإنقاذ الجديدة التي وُضعت لإنقاذ اليونان مرة أخرى بعد فشل المحاولات السابقة.
ويرى البعض أن شروط خطة الإنقاذ الجديدة غير واقعية، فبالإضافة إلى ما ذكرتُ طُلب من اليونان أن تسدد (100) مليار دولار من ديونها على مدى السنوات الثلاث القادمة، أي ما يعادل 40% من حجم اقتصادها المتهالك. ولو كانت اليونان تستطيع توفير مثل هذه المبالغ لما كانت في الأزمة التي هي فيها، ولما وصل دينها الحكومي إلى نحو (500) مليار دولار، أي حوالي 200% من حجم الاقتصاد، أو أكثر من ثلاثة أضعاف الحد المسموح به في منطقة اليورو!
فكيف ستحل اليونان أزمتها؟ هل ستستمر في استجداء شركائها الأوروبيين لتصميم خطة إنقاذ تلو الأخرى، لعل الزمان يجود وتنجح إحدى تلك الخطط بشكل سحري في إخراجها من أزمتها؟ أم ستفضل الخروج من الوحدة النقدية الأوروبية، وتتحمل التبعات القاسية لذلك، وأهمها النبذ من الأسواق المالية العالمية؟
كثير من المتظاهرين والمحتجين اليونان يطالبون حكومتهم بإعلان إفلاسها، والخروج من منطقة اليورو، والعودة إلى عملة اليونان التاريخية المرنة، الدراخما! وكانت الدراخما أداة طيعة للحكومات اليونانية، وتتناسب مع احتياجاتها السياسية، ففي الأزمات، كانت الحكومات تخفض قيمة الدارخما، مما يشجع السياحة لليونان، ويجعل صادراتها أكثر جاذبية، ويتحسن ميزان مدفوعاتها، ويرتفع دخل الحكومة مما يحل الأزمة مؤقتاً، ولكنه يؤدي إلى مزيد من التضخم وبذور أزمة جديدة تدفع إلى تخفيض جديد لسعر صرف الدراخما مرة أخرى. وكانت تلك السياسة المرنة جذابة للسياسيين، وللمواطن العادي، لأنها لا تنطوي على إجراءات تقشفية مؤلمة كما هو مطلوب منها اليوم. أما مع اليورو فإن سعر الصرف محدد في فرانكفورت، وهو يرتفع أكثر مما ينخفض، مما يعني أن أزمات اليونان تستفحل في غيار سياسة سعر صرف مرنة.
وكأني بالقارئ يقول: وما ذا يهمنا من أزمة اليونان؟ وهو محق في ذلك لولا أن الحقيقة أنه وبالرغم من صغر حجم الاقتصاد اليوناني، إلا أن تداعيات أزمتها قد انتشرت في معظم الأسواق العالمية بالفعل، بما في ذلك أسواق المنطقة، نظراً إلى أنها تمس قلب النظام المالي العالمي، القائم على درجة من الثقة، التي اهتزت كثيراً بسبب الأزمة في اليونان، والتهم التي وُجهت إلى اليونان بأنها لم تكن دقيقة، أو حتى صادقة، في مصارحة شركائها في الاتحاد الأوروبي بأبعاد أزمتها الاقتصادية، خلافاً لما تقضي به اتفاقيات الاتحاد الأوروبي ومواثيقه الغليظة. ولذلك لا تجد اليونان تعاطفاً في أوروبا لأنها تتهم باستغلال موقعها في الاتحاد، وثقة الأوروبيين بها لكي تدير سياسة مالية لا مسؤولة، تعوزها الشفافية والنزاهة.
ونظراً إلى أن اليونان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً من خلال اليورو بمنطقة اقتصادية كبرى هي الاتحاد الأوروبي؛ فإن مصير اليونان سيؤثر إلى حد كبير على بقية دول الاتحاد، ومن خلال النظام المصرفي العالمي على بقية دول العالم.
وكان قد عُقد الأسبوع قبل الماضي ـ قبل تفاقم الاضطرابات اليونانية ـ حوار اقتصادي بين المسؤولين والخبراء من الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون، سيطرت فيه أزمة اليونان على النقاش، نظراً إلى أن الأسواق المالية، بما في ذلك الأسواق المالية في المنطقة، لم تتمكن حتى الآن من تجاوز آثار الأزمة المالية العالمية، خاصة فيما يتعلق بثقة المستثمرين وترددهم في العودة بقوة إلى تلك الأسواق، على الرغم من مجموعة الإجراءات التي اتخذتها الجهات الرقابية والتنظيمية لتحسين مستوى الإفصاح والشفافية فيها، ولكن ذلك لا يبدو ذا تأثير ملحوظ على المستثمرين. ولذلك فإن أزمات اليونان التي تبدو عصية على الحل؛ قد أتت لتعزز من تخوف المستثمرين، وتلقي بظلال كئيبة على أسواق المال.
وقد سأل الخليجيون زملاءهم الأوروبيين عن خطط الاتحاد الأوروبي لمعالجة تلك الأزمة؛ بعد أن قامت وكالات التصنيف الائتماني بتخفيض تصنيف اليونان الشهر الماضي. على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان قد صمم في عام 2010 خطة كبيرة لإنقاذ اليونان، تشمل تخصيص (110) مليارات يورو لمساعدة اليونان على تحسين تصنيفها الائتماني، بما يمكنها من العودة إلى الاقتراض في الأسواق المالية العالمية. وكان من المفروض أن تلك الخطة هي مجرد تأمين لن تحتاج اليونان إلى استخدامه، لأن الأسواق سرعان ما تستعيد ثقتها في اليونان، وبالتالي تنعدم الحاجة إلى استخدام كامل المبلغ المخصص لها، ولكن ذلك لم يحدث كما أسلفتُ، بل إن الأمور ازدادت من سيئ إلى أسوأ، ولم تستعد اليونان تصنيفها الائتماني، أو ثقة الأسواق المالية، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تصميم خطة الإنقاذ الجديدة التي تبدو غير واقعية، وربما دفعت اليونان إلى شفير الهاوية الاقتصادية.