علق أحد الأخوة في موقع تويتر على مشروع طريق الملك عبدالله بعد افتتاحه بعبارة تصف الطريق في الليل بأنه جميل وخرافي ورائع ويشعرك بأنك خارج المملكة. رددت عليه في نفس الموقع بأن الطريق بالفعل كذلك لكنك ستشعر بأنك في المملكة منذ اللحظة التي ستشاهد بها "خط البلدة" على هذا الطريق الأنيق. أو عندما تقف لتعبئة الوقود في طريق الخدمة أو يعترض مسارك "تاكسي" طائر.
لا أدري إلى متى ونحن نبني ونشيد ونتكلف كثيراً في ذلك معتمدين أجمل وأروع المواصفات لتطوير مدننا الرئيسية لكننا في نفس الوقت نغفل عن بديهيات لا يمكن في الواقع إغفالها؟ بديهيات تعتبر في الكثير من مدن العالم بنى تحتية لا يستهان بها. من هذه البديهيات النقل العام في مدننا. ما يعرف بـ"خط البلدة" أحد أهم السلبيات في مدن المملكة الكبرى الحديثة. ليس فقط كونه عربة قديمة تبعث بالكثير من الغازات الملونة والضجيج وسوء المنظر ورداءة المحتوى بل لأنه أيضاً الوسيلة الوحيدة للنقل العام. هذه الوسيلة الغارقة في الفوضوية وقلة الاهتمام بأنظمة السير بارزة أمامنا منذ عشرات السنين. تأسست شركة النقل الجماعي قبل عقدين أو يزيد وقلنا حينها إن هذه وسيلة النقل المستقبلية اللائقة في المدن. بدأت "أوتوبيساتها" الفارهة الجميلة تجوب شوارع المدن بانتظام. غير أن ذلك لم يدم طويلاً. بعد فترة لم تتجاوز السنة الواحدة توقفت عن الخدمة داخل المدن وتفرغت إلى النقل بين المدن على الطرق السريعة، لأسباب لم ندركها في حينها وربما تهاونا في تبعاتها انحرفت الشركة عن هدفها الرئيسي المرسوم لها. السبب كما اتضح فيما بعد هو مجاملة أصحاب "خط البلدة" وعدم إلغاء وسيلتهم وهي الأرخص سعراً بسبب أنها الأقل كلفة. لكن هل يكفي أن نضع السعر فقط هو المقياس وندع هذه الفوضى تشوه مدننا وتعكر صفو السير على طرقاتها؟
من المظاهر الأخرى التي تساهم في تشويه المدن والتي أتمنى أن يلتفت إليها المسؤولون هي كما أشرت التاكسي ومحطات الوقود وما يتبعها من خدمات. هذا التاكسي هو أشبه بالمارد المنفلت الذي يجوب الشوارع بكل رعونة وتهور. ينتحر سائق التاكسي حتى يجد راكباً وعندما يشاهد خيال راكب فإنه يعصف بسيارته نحو الراكب متحدياً كل الأنظمة ومسبباً الكثير من الارتباك في حركة السير، فهو يقف متى ما أراد وينحرف "على كيفه" وفي أي وقت وبلا إنذار. يتجاوز بكل رعونة ويخترق الطوابير بلا حسيب ولا رقيب. تماماً كما يفعل أخوه الكبير "خط البلدة" ولكن بخفة أكثر وحيوية أكبر.
أما محطات الوقود ومهما تلبست خارجياً ببعض الزينة "مؤخراً" إلا أن تركيبتها الأساسية مشوهة. فهي لا توفر دورات المياه ولا محلات التبضع اللائقة ولا نقاطا للاستراحة أو خدمة غسيل السيارات النظيفة. إنها مساحات تمتلئ بالقاذورات والتلوث وسوء التخطيط. حتى إضاءة هذه المحطات سيئة كونها تعتمد على النيون الساطع وبغزارة تضر بالعين. الضحية في كل الأحوال وأمام كل هذه المشاهد هو تحضر المدينة وسمعتها والانطباع الذي يتناوله الزائر عن هذه المدينة ليعود به إلى دياره.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى كلنا يعلم أن تطوير طريق الملك عبدالله في الرياض على سبيل المثال أتى للإقلال من الاختناقات التي تلازم الطرق الأخرى الرئيسية. لقد تم تحول الطريق إلى طريق سريع وهذا من شأنه التخفيف من طريق خريص والدائري الشمالي وهذا ما حدث بالفعل. لكن إصلاح الطرق وحده لن يكفي لفك الاختناقات مستقبلاً ولن يلغي الحاجة إلى وسائط النقل العامة.
إن النقل العام المتقدم اليوم ضرورة لا يمكن تناسيها أو إهمالها في أي مدينة يتجاوز سكانها المليون نسمة. هذا ما دفعني قبل عام ونصف العام إلى التحدث عن مترو الرياض الذي كان يفترض أن ينتهي العمل فيه قبل سنتين حسب ما أعلن في حينها. مترو الرياض مازال مشروعاً جامداً، وحسب علمي مازالت وزارة المالية ترفض تمويله من منطلق أن خطة التشغيل والدخل المتوقع لا يغطيان التكلفة. الذي غاب عن الوزارة أن وسائل النقل العامة في معظم دول العالم المتقدمة هي أصلاً لا تربح. إنها مشاريع حكومية يقصد منها تسهيل تنقل الناس والإقلال من استخدام السيارات. لو أن وزارة المالية أجادت في تحليلها المالي لاقتنعت أن غياب المترو سيكلف الدولة أكثر عندما تضطر الأمانات في كل مدينة إلى نزع ملكيات وتوسعة شوارع وحفر أنفاق لفك المزيد من الاختناقات في المستقبل. بمعنى أن المردود المالي للمترو سيأتي عن طريق التوفير المستقبلي لمشاريع أخرى قد تضطر نفس الوزارة إلى تمويلها كما حدث في طريق الملك عبدالله على سبيل المثال أو كما يجري العمل عليه في عدد من الطرق الأخرى الرئيسية في مدينة الرياض.
من هنا أهيب بالمسؤولين عن المدن السعودية أن يبحثوا وعلى وجه السرعة عن حل جذري وحاسم لقضية النقل العام والمحطات الخاصة بالتزود بالوقود في المملكة. الحل في نظري لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق تأسيس شركات وطنية بالتعاون مع شركات عالمية ذات باع وخبرة في هذه الأنشطة. نضع المواصفات وما تتطلبه المدن السعودية كشروط ومتطلبات ونمنحهم كرسي القيادة ليتنافسوا على الأفضل. شركات كهذه ستكون فيما بعد شركات مساهمة عامة وسيحق لكل مواطن أن يكتتب بها.
ما المانع مثلاً من إدراج مالكي "خط البلدة" كمساهمين في هذه الشركات مقابل الاستحواذ على سياراتهم الحالية وتقييمها لتتحول إلى حصة رأسمالية. هنا نحقق هدفين: الأول، عدم الإضرار بهم والثاني، تخلص المدن من عرباتهم وفوضويتهم.
من غير المعقول أن يتم إنفاق مئات الملايين من الريالات في تجميل المدن ثم نتناسى مثل هذه المتطلبات الأساسية التي لا غنى لأي مدينة كبرى عنها. وما قيل هنا ينطبق أيضاً على ملاك محطات الوقود. نبدأ بتقييم ممتلكاتهم وندرجها حصصا رأسمالية لهم في الشركات الجديدة ونرفع أيديهم عن إدارتها ثم نعيد بناء هذه المحطات بأعلى المواصفات التي تفي بمتطلبات الزمان والمكان.
جمال المدن السعودية ورونقها كل لا يتجزأ وقبولنا لهذه المشاهد الرديئة يقضي على كل خططنا الطموحة المكلفة لتجميل المدن وتهيئة سكانها للاستمتاع بها.