قد يكون الكلام من فضة، لكن "التعبير" بالتأكيد من ذهب. فهذا جيل نصب خيمته بين جبال الذهب وأودية الفضة.. حيث الكتابة صرخة ولادته. جيل تعلم الكتابة قبل أن يتعلم القراءة. فجاءت الكتابة الجديدة ابناً شرعياً لزواج "غير متكافئ النسب" بين الكلام والسكوت. فهل الكتابة الجديدة ابنة لفضة الكلام أم أنها ابنة لذهب الصمت؟.
حينها صار للرأي قيمة سواء تكلم أو كتب. حيث تنحدر قيمة الرأي إما من قوة الأفكار، أو من القيمة المهنية أو الوظيفية لصاحب الرأي، لكن القيمة الثالثة للرأي أصبحت من كمية الأصوات المؤيدة أو المعارضة لقضية أو قرار أو موقف ما. وهنا يجب أن يفقد الصمت قلعته الأخيرة من حصن السلبية في ثقافة الصمت.
أظن أن مجلس الشورى هو أكثر المؤسسات تهيئة -وظيفياً- لاحتضان ورعاية مشروع قياس الرأي العام ورسم خريطته من أقصى يمينه إلى أقصى يساره، بما يضمن البعد عن عشوائية وعبثية توزيع ولصق المسميات والتصنيفات والوصم لكل من أبدى رأيه بالتطرف يمينا أو يسارا.
رغم أن نظام المجلس حاليا لا يعطيه هذه الصلاحيات؛ إلا أنه ليس من العقلانية، أن يستمر مسلسل تقسيم المجتمع إلى متطرفين يمينا ومتطرفين يسارا، وفي المقابل يتم تغييب منطقة الاعتدال الوسطى التي هي بمثابة صمام الأمان ومحور الاتزان وهي في الغالب الأكثرية، والمغيبة بسبب غياب خريطة الرأي العام الحقيقي المبني على استطلاعات الرأي العام خاصة في القضايا الجوهرية التي كلما برزت على السطح، فتحت قوائم التصنيف والوصم، وشرع محترفو الوصم والفرز بكيل اتهاماتهم لهؤلاء بالليبرالية ولأولئك بالإسلاموية تارة وبالتغريبية أو الصحوية تارة أخرى.. وكأن المجتمع لا يوجد به سوى هاتين الفئتين اللتين ربما لا يتجاوز حجمهما 4% أو أقل أو أكثر قليلا. فكيف يصبح المجتمع بكامله مرتهنا بكل قضاياه لأقصى اليمين وأقصى اليسار وتبقى الغالبية المعتدلة مغيبة ومصادرا صوتها.
والشورى مطالب باقتراح أنظمة تتيح الوقوف على معرفة الرأي العام الوطني حيال قضايا محورية ليس بذاتها فقط وإنما بتأثير تلك القضايا على اللحمة الوطنية من ناحية، وللخروج من حمى الوصم بالتطرف، وذلك بالشروع في إعداد آلية جديدة تسمح بمعرفة دقيقة وعادلة لمواقع اليمين واليسار والوسط دون مزايدات أو تهكم وسخرية.
لسنا مجتمعا ملائكيا، لكن المحافظين موجودون في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وكذلك دعاة التغيير موجودون في المجتمعات والدول الإسلامية وغير الإسلامية، ولا يجوز وصم هؤلاء أو أولئك بصفات تخرج عن الذوق والأخلاق العامة. فلكل رأيه وحقه في التعبير فيما يخدم المصلحة العامة دون عنف. وإتاحة خريطة الرأي العام بتكرار قياس الرأي العام، هو في الحقيقة يسمح بمراقبة تغير مواقع أصحاب كل فكر وتنقلهم على تلك الخريطة. فمن المعروف أن المواقع تتغير طبيعيا تبعا للوقت والوعي والمصلحة. فليس هناك موقع دائم مع كل القضايا وفي كل الأوقات.
مجلس الشورى بمثابة مؤسسة نيابية تشريعية، ونظامه الحالي يسمح له بالقيام بدور مهم في مناقشة وإبداء الرأي في اقتراح الأنظمة وتقييم النافذ منها وإبداء الرأي بما يحال إليه من مجلس الوزراء من موضوعات و قضايا. وتتخذ قراراته بتصويت الأغلبية من أعضائه تجاه أي مشروع يتم التصويت عليه. ويستعين المجلس بمن يراه لاستكمال واستيفاء مناقشاته حيال ما يتداوله من قضايا من خارج المجلس.
لم يعد الشأن العام وظيفة يتولاها جهاز حكومي دون سواه ولا شأنا تناقشه النخبة فقط. فقد ارتفع الوعي الشعبي بالشأن العام بشكل كبير ناتج عن ثقافة التواصل الجماهيري، وعولمة المعرفة ولهذا اتسعت رقعة التعبير بغثه وسمينه.
لكن تزايد الوعي الشعبي بالشأن العام وعولمة المعرفة التي أتاحتها معطيات العصر، بحاجة إلى أن يترجم هذا التطور إلى مكتسب وطني يرتفع بسقف آلية اتخاذ القرار لتتحول إلى أصوات لها وزن معياري في ترجيح كفة الحسم، فيساعد صاحب القرار في اتخاذ قراره خاصة في القضايا المهمة ذات الصلة بالرأي العام.
إن تأسيس مركز وطني لقياس الرأي العام، ليس بالضرورة أن يتبع لمجلس الشورى، فقد يكون من الأفضل أن يكون مستقلا، لتستفيد منه كافة الأجهزة الحكومية، لكن هناك قضايا كبيرة شغلت الرأي العام بطوله وعرضه لفترات طويلة من الزمن، مثل قضية قيادة المرأة للسيارة، تحتم أن يكون مجلس الشورى ذا صلة فنية بمركز قياس الرأي العام المقترح.
حينئذ، وحينئذ فقط، يصبح تعدد الآراء وتنوعها وتلونها قنوات إيجابية تصبح في لحمة الوطن وبنائه وليس في هدمه أو تقزيمه وتأزيمه، وليصبح الذهب حينها مجرد معدن ثمين في بورصة المعادن الثمينة ولاعلاقة له ببورصة الثقافة والتعبير عن الرأي.