بعد 6 أشهر من اندلاع حركات الاحتجاج والتظاهر في العالم العربي، أو ما أصبح يُطلق عليه الآن وبشكل مكثف "الربيع العربي"، هذا النظام العربي الجديد بثوراته واحتجاجاته وتظاهراته، بدءاً بثورة الياسمين التونسية التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، هذه الثورة التي دشنت عصر الثورات العربية، ومروراً بالثورة المصرية التي تخلصت من نظام حكم استمر لعقود طويلة، ويبدو أن "الربيع العربي" لم يقف عند تونس ومصر، ولكنه ومنذ ثلاثة أشهر تقريباً يُحاول أن يُغطي ليبيا واليمن ضمن مناخه الجديد الذي يستهدف البلدان التي تدعي الديموقراطية ولا تطبقها في الوطن العربي.
بالنسبة لليبيا، فإن نظام معمر القذافي في طريقه للتلاشي والاضمحلال، حيث يُعاني من عزلة دولية، وضغط غربي للتخلص من هذا النظام الديكتاتوري المستبد. ولا يختلف الأمر كثيراً في اليمن، فإن سلطة الرئيس علي عبدالله صالح تترنح، والأيام القليلة القادمة قد تعلن نهاية حكمه الذي امتد لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن. وحتى تكتمل الصورة البانورامية لمشهد "الربيع العربي"، لا بد من مقاربة لما يحدث في سورية، هذه الدولة الاستثنائية في النسيج العربي، فهي ـ في الذهنية العربية ـ خط الدفاع العربي الأول ضد العدو الصهيوني، وهي الجسر المُمول لغالبية الحركات العربية المقاومة، سواء كانت إسلامية راديكالية، أو قومية عربية، في حين أنها لم تُطلق عياراً نارياً واحداً ضد المحتل الإسرائيلي في هضبة الجولان المحتلة منذ سنوات طويلة.
نعم، قد تكون هذه المقدمة طويلة نوعاً ما، ولكنها ضرورية ولا غنى عنها ـ في نظري طبعاً ـ لفهم واستمزاج فكر وذائقة المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، هذا المواطن الذي يحمل صورة مشوشة ومشوهة لهذه الثورات والاحتجاجات والاحتقانات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. كيف ينظر المواطن العربي، سواء البسيط أو النخبوي أو المستقل أو المسيس لتنامي هذا "الربيع العربي" المأمول ـ وقد يكون المزعوم ـ في غالبية الوطن العربي؟. وهل استطاع التخلص ـ أي المواطن العربي ـ من خلفياته الفكرية والاجتماعية وتحرر من كل تلك القيود التي تُحدد مساره، بل وتدفعه للحكم على شرعية وأحقية ثورة هنا، وعدم شرعية وأهلية ثورة هناك؟. وكيف أسهم بعض الإعلام العربي ـ والغربي أيضاً ـ بكل "ماكيناته" الإعلامية الضخمة التي تضخ على مدار الساعة ركاماً هائلاً من الأكاذيب والافتراءات والفبركات أسهمت ومازالت في "غسل دماغ" هذا المواطن العربي وتوجيهه وتسييسه ودفعه لتبني الكثير من الأجندات والقناعات والمسلمات؟
أيضاً، المثقفون العرب الذين يقعون في موقف لا يُحسدون عليه، فهم إما موظفون ضمن مؤسسات الأنظمة الثقافية والإعلامية في البلدان التي قامت فيها الثورات، وبالتالي هم جزء من السلطة، وهؤلاء يتبنون ـ طبعاً ـ الرواية الرسمية على الدوام، وهي على الأغلب أكذوبة الأجندة أو المؤامرة الخارجية، أو هم مثقفون "مستقلون"، أو هكذا يُقدمون أنفسهم، ولكنهم يقبعون في المنطقة "الرمادية"، بمعنى أنهم لا يُقدمون ولا يُؤخرون، وإن كان بعضهم في تلك البلدان بحجة الخوف من المجهول أو عدم وجود البديل الأنسب يُفضلون إعطاء السلطة المزيد من الوقت للبدء في إجراء الإصلاحات والتعديلات، أو هم "قومجيون" يمتهنون الشعارات والصراخ دون أن يُقدموا تضحية تُذكر، وهناك شريحة يسارية من المثقفين العرب، ولكنها الأقل على الإطلاق، وهي تنحاز إلى الجماهير وتتحمل نتيجة ذلك الويلات والمحن والسجون، بل والتصفية في كثير من الأحيان، أما الفئة الأكبر من المثقفين العرب فهم "الصامتون" الذين لا يمتلكون الشجاعة الكافية للإعلان عن آرائهم ومواقفهم وانتماءاتهم، وإن كان بعضهم ينتظر بكل انتهازية وخبث الفرصة السانحة للقفز على المنصة المنتصرة، والصعود الكبير للكثير من المثقفين الصامتين الذين لم يُشاركوا في الثورات، بل على العكس، حيث شكك الكثير منهم في منطقية أو نجاح تلك الثورات.
إذاً، هذا هو حال المثقفين العرب الذين يحملون مشاعل التنوير والحرية، وهنا لا بد أن نُنهي هذه السلسلة الطويلة من تلك الأسئلة المطروحة في الشارع العربي بهذا السؤال: ما هو الدور الخطير الذي لعبه هذا التباين والتأرجح في مواقف المثقفين العرب في تغذية أو تضليل أو توجيه المواطن العربي الذي يجد نفسه حائراً ومشوشاً أمام كل هذه الثورات والاحتجاجات العربية المتلاحقة؟
يبدو أن المواطن العربي يعيش حالة من الارتباك والقلق والإحباط والضبابية مما أفقده الكثير من توازنه ووعيه وقدرته على تقييم الأمور، وهذا ما انعكس وبشكل واضح على موقفه من الاحتجاجات والثورات العربية المتعددة.
نعم، هذا هو حال المواطن العربي في تعاطيه مع الثورات العربية، ولكن الأمل الكبير معقود على جيل الشباب الممتلئ حماسة وعنفواناً ووعياً، وقد أثبتت الأحداث العربية المتلاحقة وفي أكثر من قطر عربي أن الشباب العربي متقدم في وعيه السياسي والقومي والثقافي، وها هو يُمسك بزمام المبادرة.