أولويات أي مجتمع تترتب حسب أولويات من يطرحها في المجتمع، وليس هنالك أي مجتمع يتفق في طرح أولوياته، ما عدا المجتمع الذي يعيش حربا أهلية طاحنة، فهو الذي يكاد يجمع أفراده، على أولوية إيقافها. إذاً فالمجتمعات المستقرة، التي تشق طريقها نحو النمو والتقدم، تكاد تتباين أولوياتها حسب عدد أفرادها وما يطرحه أي منهم من قضايا للنقاش.

إذاً فلكل مواطن الحق في طرح أي قضية للنقاش، كل على حسب ما يراه مهماً وضرورياً بالنسبة له وللمجتمع. فقد يعتبر فرد أن سعر طبق البيض مرتفع جداً، وتوفيره مرهق لميزانيته، بينما يرى آخر أن سعر متر الأرض التجارية مرتفع جدا، ومعيق لاستثماراته. وعليه فلا يحق لمن يرى أن سعر طبق البيض مرتفع، أن يسكت، من يعتقد أن سعر متر الأرض التجارية مرتفع. ويحتج عليه بأن ارتفاع سعر طبق البيض يؤثر على شريحة كبيرة من المواطنين، بينما ارتفاع سعر متر الأرض التجارية، يؤثر على فئة قليلة منهم، ونسبتهم ضئيلة جداً، مقارنة بعدد من يأكلون البيض. كما أن من يعتقد بأن سعر متر الأرض مرتفع، لا يحق له أن يسكت من يعتقد بأن سعر طبق البيض مرتفع، بحجة أن ارتفاع سعر طبق البيض هو ارتفاع تافه، لا يعدو كونه ريالا أو نصف ريال، بينما ارتفاع سعر متر الأرض يصل لمئات الآلاف من الريالات، ولذلك فعلى أكلة البيض تعديل، نمط معيشتهم، وأن يخففوا من استهلاك البيض، حتى لا يرهق سعره ميزانياتهم؛ ولذلك فعلى من يطالب بخفض سعر طبق البيض، أن يتوقف عن مطالباته وليفسح المجال لمناقشة مشكلة غلاء العقار التجاري، حيث هي التي تؤثر على الاستثمارات التجارية في المدن، وبالتالي على وضع المدن التجاري والاقتصادي بشكل عام.

وإذا أضاع المتناقشان وقتهما في إسكات كل منهما الآخر، وقلل كل منهما أهمية المشكلة التي يعاني منها الآخر، وسفه كل منهما الآخر، فلن يسمع من أي منهما؛ والنتيجة أنه لن تتم مناقشة أي من المشكلتين، على الوجه المطلوب، وبحث المخارج لها، وبالتالي فإن هذا سيريح الجهة المسؤولة عن حل المشكلتين، بحجة عدم تحديد الأولوية، بالنسبة للمواطنين. وفي الحقيقة، أنه لو فسح كل منهما المجال للآخر، وجعله يشرح مشكلته بكل تفاصيلها وتأثيراتها الجانبية البسيطة منها والمعقدة؛ لاكتشف كلاهما، أنهما يتحدثان عن مشكلة واحدة، وهي ارتفاع الأسعار بشكل عام؛ حيث ارتفاع الأسعار، داء اقتصادي يسمى بـ(التضخم)، يؤدي إلى ارتفاع أسعار كل ما يعرض في السوق من سلع، من البيضة حتى ناطحة السحاب. وإيجاد حل للتضخم أو التخفيف من حدته، سيستفيد منه الذي يعاني من ارتفاع سعر طبق البيض، بنفس القدر الذي سيستفيد منه من يعاني من ارتفاع سعر متر الأرض في السوق التجاري.

إذاً فما المشكلة التي كانت تواجه عملية طرح كل من صاحب طبق البيض وصاحب متر الأرض التجاري، والتي جعلت من حوارهما حوار طرشان؟ المشكلة بالتحديد هي أن كلا منهما عزل مشكلته عن باقي المشاكل، الموازية لها والمتقاطعة معها، وأخذ يطالب بحل خاص لها في البداية دون غيرها، ولم يحدد أي منهما إلى أي مشكلة اقتصادية تنتمي مشكلته؛ ولو حدد كل منهما ذلك من البداية، لعرف كل منهما أن مشكلته تنتمي لمشكلة واحدة، تسمى التضخم، وأنهما يتحدثان عن نفس المشكلة، ويطالبان بنفس الحل.

ونحن دوماً نقرأ ونسمع مثل حوار الطرشان هذا، يطرح ويناقش في حماس منقطع النظير، في ساحاتنا الإعلامية والمنبرية وحتى في مجالسنا الخاصة. خذ مثلاً، عندما أعلن عن عدم السماح بمشاركة المرأة لا في التصويت ولا في الترشيح للمجالس البلدية؛ هنالك من طرح حق المرأة في التصويت والترشيح للنقاش، حيث النظام لا يمنعها من ذلك؛ فخرج علينا من يقول دعونا من حق المرأة في التصويت والترشيح، ولنطالب أولاً بتفعيل دور المجالس البلدية في أداء دورها المطلوب منها في تنمية المدن ورعاية مشاريعها، وهذا أهم بكثير من المطالبة بمشاركة المرأة. فمن طرح مثل هذا الطرح، إما جاهل بما يطرحه، وإما متضامن، بدون تصريح، مع منع المرأة من المشاركة، في الانتخابات البلدية.

وذلك لكون تفعيل دور المجالس للعب دورها المطلوب منها، يقع في خانة المشاكل الإدارية (البيروقراطية)، وحلها يكمن بإعطاء المجالس المزيد من الصلاحيات، ومنع ما يعيق عملها من تضارب في الصلاحيات الإدارية مع دوائر حكومية أخرى، ولا دخل لحلها بتصويت أو ترشيح المرأة للمجالس البلدية لا من بعيد أو قريب. أما مشكلة عدم تمكين المرأة من حقها في التصويت والترشيح، فتقع ضمن المشاكل الحقوقية. وبما أن النظام لم يغبط المرأة حقها في التصويت والترشيح للمجالس البلدية، وإنما تم غبط حقها من قبل اللجنة المشرفة على الانتخابات، فهذا يعتبر تعديا على الحقوق المؤكد عليها في النظام؛ وهذا دليل على عدم جدية اللجنة المشرفة في تطبيق النظام؛ وعليه فليس بمستبعد ألا تكون جادة كذلك في تطبيق الأنظمة التي تفعل دور المجالس البلدية كما أراد منها النظام. وهذا ما اكتشفه أعضاء مجلس الشورى، الذين طالبوا اللجنة، بتفعيل حق المرأة في التصويت، كما نص عليه النظام، ومنح صلاحيات أكثر للمجالس البلدية لتؤدي عملها على الوجه المطلوب، كما أراد منها النظام. أي أن مجلس الشورى اكتشف بعد مناقشة أعضاء اللجنة، أن مشكلتهم في إدارة الانتخابات هي جوهرية وليست شكلية (استعدادات).

ونسمع حوار الطرشان هذا الآن يتكرر في مسألة طرح حق المرأة في قيادة سيارتها. فمن المعارضين، من لا يتجرأ أن يعلن وقوفه ضد حقها؛ ولكنه يغطي هذا بحجة، أن هنالك قضايا تخص المرأة أهم من قيادتها للسيارة مثل العضل، والعنوسة والعنف الأسري وما شابه ذلك من مشاكل تواجهها في حياتها، والتي يجب حلها أولاً. كل ما ذكر أعلاه يقع في خانة حقوق المرأة. ومن أدنى حقوق الإنسان حرية التنقل، والمرأة إنسان قبل أن تكون امرأة؛ فمن يبرر حرمانها من أدنى حقوقها أو يتجاهله، فمن أين نبعت لديه الجدية في صون حقوقها الأكثر أهمية، كما يعتقد؟ حيث الحقوق تأتي "كباكج،" لا فرادى، والذي يؤمن بها يجب أن يؤمن بها "كباكج،" لا فرادى، وإلا فليبحث له عن حجة أخرى على الأقل تكون خارج "باكج" الحقوق، وهذا سيوقعه في مطب، الخروج عن صلب الموضوع.

وأي إنسان يبرر لحرمان الآخرين من حقوقهم أو يهون من أمرها، فلا يحق له غداً، إذا حرم من حقوقه، أو استهين بها، بأي مبررات واهية؛ أن يرفع عقيرته، أين حقوقي؟ حيث يقول المثل الشعبي "إذا طحت يا فصيح، فلا تصيح". وحتى لا نصيح كأفراد أو مجتمع، يجب أن نمنح الحق، لكل من لديه مشكلة أو حق مسلوب بأن يطرحه للنقاش، ولنستمع له بكل حب وأريحية؛ فقد يتقاطع حل مشكلته مع حلول مشاكلنا ورد حقوقه، مع ضمانة حقوقنا في الحاضر أو المستقبل، بطريق مباشر أو غير مباشر.