تحدثت منذ أسبوعين تقريبا وعلى صفحات هذه الصحيفة الغراء عن وباء حمى الضنك والبعوضة إيدس إجيبتاي Aedes aegypti الناقلة لفيروسات هذا الوباء، وأوضحت أن الدولة أدركت التحديات الصحية الخطيرة التي يمثلها انتشار هذا الوباء اللعين، ليس فقط على سكان أهل جدة، بل على سكان جميع المناطق الساحلية في جزيرة العرب في المستقبل القريب، لذا لم تتردد الدولة في الإنفاق السخي في مقاومة هذا الوباء اللعين والحد من انتشاره، ولكن مما يؤسف له أن أمانة مدينة جدة لم يكن لديها أي استراتيجية علمية واضحة المعالم في مقاومة هذا الوباء، وكان الارتجال هو سمة المقاومة التي اتبعتها الأمانة، وقد أوضحت ذلك في مقالات سابقة. والحق يقال إن ما يعقّد مهمة أمانة مدينة جدة في مقاومة هذا الوباء اللعين والبعوضة الناقلة لفيروساته هو عدم الجدية من شركة المياه الوطنية في التخلص من مستنقعات مياه الصرف الصحي المنتشرة في معظم أحياء مدينة جدة، هذا الأمر حتما سيؤدي في نهاية المطاف إلى انتشار هذا الوباء في جميع مناطق المملكة دون استثناء وفي زمن قياسي.
وفي السطور التالية سأوضح الطرق العلمية في مقاومة هذه البعوضة اللعينة بناءً على معطيات نظمنا البيئية التي أسأنا ومازلنا نسيء لها بصورة بشعة. وطرق المقاومة تعتمد في المقام الأول على سلوك هذه البعوضة في جميع أطوارها. وكما هو معروف فإن لهذه البعوضة (Aedes aegypti) أربعة أطوار هي البيضة واليرقة والشرنقة والطور البالغ. وفترة تطور هذه البعوضة من البيضة وحتى الحشرة الكاملة تتراوح ما بين 7 إلى عشرة أيام.
تعتبر البيضة من أشد وأصعب أطوار هذه البعوضة من حيث المقاومة، فأنثى البعوضة تضع في عمرها القصير الذي يتراوح ما بين أسبوعين إلى 4 أسابيع، خمس وضعات ( ولادات) Batch في كل وضعة تضع حوالي 100 إلى 200 بيضة ويتوقف عدد البيض الذي تضعه الأنثى في كل ولادة على حجم وجبة الدم الذي امتصته من ضحيتها الإنسان، وتكمن صعوبة هذا الطور في قدرة البيض على مقاومة الجفاف لسنوات طويلة وهذا ما أوضحه الباحث (Clements AN 1992).
الطور الثاني: هو الطور اليرقي، ويبدأ عند فقس البيض عندما تصل إليه المياه، لينجم عن كل بيضة يرقة Larvae وهذا الطور اليرقي هو أضعف أطوار هذه البعوضة اللعينة ويستمر فقط لمدة أربعة أيام، وخلال هذه الفترة يمكن القضاء على اليرقات بتغير الصفات الفيزيائية الكيمائية للوسط المائي الذي تعيش فيها هذه اليرقات، ودرجة حرارة الوسط المائي الذي تعيش فيه هذه اليرقات يتراوح ما بين 21 إلى 30 درجة مئوية، وما زاد أو نقص عن ذلك سيؤثر سلبا على نمو هذه اليرقات، ومن الصعوبة بمكان تغير درجة حرارة البيارات في مدينة جدة إلى أكثر من 30 درجة مئوية أو خفضها أقل من 21 درجة بغرض القضاء على هذه اليرقات، ولكن هناك عامل بيئي آخر يمكن استخدامه في القضاء على هذه اليرقات وهو التلاعب في درجة حموضة" PH" مياه البيارات، ودرجة الحموضة يعبر عنها بمقياس يتراوح من 1 إلى 14، الرقم 7 في هذا المقياس يشير إلى الماء المتعادل، أي الماء الذي لا يميل إلى أي من الوسطين، الحامضي أو القلوي، وما قل عن سبعة يعتبر وسطا حامضا وما زاد عن 7 يعتبر وسطا قلويا، الوسط الحامضي الأمثل الذي تعيش فيه هذه اليرقات يتراوح ما بين 6.2 إلى 7.4 وما زاد أو نقص عن ذلك يؤثر تأثير كبيرا على نمو هذه اليرقات، لذا قد يكون واجبا علينا كمواطنين أن نحاول تغير الوسط الحامضي للبيارات، بمساعدة الأمانة أو الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة أو وزارة الصحة أو أي جهة حكومية!! وهناك عامل بيئي آخر يمكن تجنيده في الحد من نمو هذه اليرقات، وهذا العامل ضروري لاستمرار حياة جميع الكائنات الحية تقريبا، وهو غاز الأكسجين الذي بدونه لا تستطيع هذه اليرقات القيام بوظائفها الحية، ويمكن حرمان هذه اليرقات التي تعيش في بيارات مدينة جدة من الأكسجين بإضافة أي نوع من زيوت السيارات حتى الزيت المستعمل بكميات بسيطة إلى هذه البيارات وغرف تفتيشها.
وهناك أمر مهم يجب أن تأخذه أمانة مدينة جدة على محمل الجد وهو مراقبة المشاتل الزراعية، لأن بعض النباتات، خاصة أفراد العائلة الموزية ذات الزهور الكبيرة التابعة للجنس Bromeliads تعتبر زهورها من أهم المناطق لنمو هذه اليرقات. وللعلم فإن هذه النباتات تستخدم بشكل كبير كنباتات للزينة في الكثير من المكاتب الحكومية والمساكن الخاصة.
مقاومة هذه الأطوار لا تعني التوقف عن مقاومة الطور البالغ، على ألا تقتصر المقاومة فقط على رش المبيدات، ولكن المقاومة يجب أن تشمل المقاومة الحيوية Biological control ومنها إعادة توطين الطيور الصغيرة المعروفة باسم الطيور الدورية التي كانت تنتشر بأعداد كبيرة في جميع نظمنا البيئية منذ آلاف السنين والتي افترستها الغربان الدخيلة علينا. هذه العصافير الصغيرة كانت من أهم العوامل المحددة لانتشار الحشرات ويرقاتها، خاصة البعوض، والأهم من هذا وذاك وهذا ما نادينا وسنظل ننادي به، وهو التخلص من مستنقعات مياه الصرف الصحي المنتشرة في جميع أحياء جدة.