المهمة الكبرى اليوم أمام الثورات العربية هي مهمة تحقيق الديموقراطية والدولة الحديثة. كان هدف المقالين الماضيين هو بيان، من خلال حالة البلطجية والشبيحة، أن الدولة العربية المعاصرة المتلبسة بالديموقراطية وإن أخذت شكل وهيكلة الدولة الحديثة إلا أنها لا تزال تمثل امتدادا لدولة ما قبل الديموقراطية. الدولة التي لا يمثل الشعب مصدرا لشرعيتها بقدر ما يمثل استثمارا للنخب الممسكة بالسلطة فيها. بل إن هذه الدولة، باستثمارها لمنطق الدولة الشمولي، فاقت سلفها في إخضاع كل الناس وكل الأرض لسلطتها ولرغباتها وأهوائها مما جعلها مصيرا مظلما لا هرب منه. إن كان العربي القديم يغادر سلطة الدولة بمغادرته المدن والحواضر فإنه لا مهرب لخلفه من مطاردة الدولة له. كان السلف يستطيع الاستقلال بتعليم ابنه وممارسة تجارته البسيطة بعيدا عن الاحتكاك المباشر بالدولة بينما لم يعد الخلف يستطيع الاستقلال حتى بتسمية ابنه أو تربيته أو زراعة أرضه أو كسب رزقه البسيط إلا من خلال الدولة.

هذا الوعي مهم جدا لنجاح الثورات العربية. لا تكمن الأزمة فقط في مجموعة من المستبدين يتم التخلص منهم بقدر ما تعاني الدولة كمؤسسة ذات علاقات مباشرة مع الناس من خلل جوهري في تركيبتها. فهي دولة شمولية من جهة ومحتَكَرة من جهة أخرى. الدولة الشمولية تحتكر الفضاء العام وتعزل الناس عن المشاركة في تنظيم وصياغة حياتهم انطلاقا من اعتقادها أن الناس ليسوا أكفاء وأن كل الأمور يجب أن تدار من جهات عليا تستطيع ضبط الأمور والسيطرة عليها كما أنها محتَكَرة من قبل فئة بسيطة من المنتفعين مما يعني احتكار الوطن والناس.

التعليم مثلا هو مؤشر دقيق على قضيتنا هنا حيث لا ينعكس الاختلاف والتنوع الشعبي والثقافي والجغرافي على طبيعة التعليم في كثير من الدول التي تدعي الديموقراطية بقدر ما تسيطر نسخة واحدة على الجميع. من الطبيعي أن يشترك أبناء الوطن الواحد في تعلم مبادئ وطنية وعلمية واحدة ولكنه من المهم أيضا، في دولة ديموقراطية، أن تعكس المدرسة بيئة الطالب الواقعية، أي أن تمثل المدرسة بيئة تدريبية يعي من خلالها الطالب والطالبة واقعهم بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أعتقد أنه جزء من تحول الدولة العربية المعاصرة التي تدعي الديموقراطية، من دولة العبيد إلى دولة الأحرار هو التقليص من صلاحياتها وزيادة الرقابة القانونية عليها. في المقابل يجب أن تتوسع صلاحيات الأحياء والمجالس الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني لتقوم بإدارة شؤون أنفسها تحت مظلة القانون والرقابة الشعبية والإعلامية. شمولية الدولة نقطة جوهرية في إشكالها اليوم والمشكلة أن الكثير قد يكتفون بوجود شخصيات محترمة ونزيهة تقود البلد وانتخابات مرتفعة المصداقية وينسون أن كل هذا لن يكفي في ظل حكومة مركزية تحتكر الشأن العام وتعزل الناس منه.

شمولية الدولة تمثل أزمة حتى في الدول التي تمثّل الدولة فعلا إرادة الناس أو جزءا منها، فما بالنا بدول مارست هذه الشمولية انطلاقا من احتكار السلطة واستعباد الناس. دولة الأحرار تعني أن الطريق مفتوح أمام المواطن العادي يوميا للمشاركة في حراك مجتمعه. وهذا لن يتحقق إلا بفتح المجال العام للناس. المجال العام هو مكان لقاء الناس وتواصلهم وجدالهم من أجل الصالح العام. المجال العام هو ساحة توليد الفكر والهوية والعمل. اليوم المجال العام العربي المفتوح هو المجال الإلكتروني. بمعنى أنه المكان الذي يلتقي فيه الناس بأرادتهم الحرة وبدون المرور بقناة السلطة الرسمية التي تراقبهم طبعا. المجال العام على أرض الواقع لا يزال محجوبا ولا يمكن الوصول له إلا بحشد هائل وثورة كبرى. لم يستطع شباب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ممارسة حقهم في مجالهم العام إلا بالقيام بثورات شعبية استطاعت بشق الأنفس احتكار السلطة الشمولية للمجال العام.

دولة الأحرار تنطلق من تعريف محدد للفرد والدولة والعلاقة بينهما. الفرد يعرّف بأنه كائن حر يتمتع بحقوق طبيعية غير قابلة للانتزاع، حقه في التعبير والتفكير والاختيار والمشاركة في الشأن العام للدولة في مقابل جهاز تنظيمي معدّ لخدمة المجتمع وفق حدود معينة ووفق اختيار وموافقة شعبية محددة زمنيا.

العلاقة بين الطرفين محكومة بدستور معدّ لحماية حقوق الأفراد. الضوابط والحماية ترتكز أساسا على حماية الفرد من الدولة وتخضع أجهزة الدولة لقيود صارمة تكفل عدم طغيان قوتها على الأفراد. هذا العقد الاجتماعي معروف اليوم وأغلب الدساتير العربية المكتوبة تتفق معه في الظاهر ولكنها تكسره في التفاصيل بشكل مدمّر. قوانين الطوارئ هي حالة صارخة من إفساد هذه الدساتير ولكن هناك آلاف الخروقات التي تتغلغل في تلافيف المعاملات الرسمية والحقوقية التي استطاعت دولة الاستبداد بثّها تقف وتعارض العقد الاجتماعي الأساسي. الثورة العربية اليوم أمام مهمة الغوص في هذه التلافيف وتطهيرها من ما نسجته روح الاستبداد. في الدول الديموقراطية الحقيقية توجد لجان سابقة ولاحقة لأي تشريع تخضعه قبل التطبيق لفحص دستوري يضمن عدم كسره للعقد الاجتماعي الأساس. عربيا نعلم أن هذا الأمر لا وجود له كما أنه لا وجود لمعارضة حقيقية تتمتع بحق التعبير مما يعني أن كمّا هائلا من القرارات والقوانين التي تخدم المستبد قد انتشرت في جسد الدولة كالسرطان الذي لا بد من استئصاله.

جذر الاستبداد عميق جدا في قلب الدولة العربية المعاصرة على الرغم من أنها تتلبس بالديموقراطية. التعرف عليه وكشفه وعلاجه مهمة كبيرة وشاقة ولكنها أساسية ومبدئيّة. الفترة القادمة ستجعل المجتمعات التي أنجزت ثوراتها الأولية أمام ثوراتها الحقيقية التي ستمثل ارتدادا نقديا واعيا للذات للتخلص من روح العبد فيها وإطلاق جوهرها الحر للحياة.