كتبتُ سابقاً في صحيفة الوطن مقالاً بعنوان "عندما يبتعد الوعظ عن الوقار"، تحدثت فيه عن بعض الخطب والمواعظ التي تُلقى على الشباب، والتي كنت قد شاهدت تسجيلاً لبعضها على موقع "اليوتيوب". ذكرت وقتها أنه لا اللغة ولا الألفاظ والأسلوب ولا حتى الموضوع أحياناً مما يمكن اعتباره لائقاً بالدعوة إلى الله تعالى، فالاسترسال في الوصف الجنسي للحور العين بطريقة مثيرة للغرائز يتناقض مع دعوة الشباب العزاب للعفة وعدم إشغال النفس بالتفكير في هذه الأمور، والتحذير من قيادة المرأة للسيارة بذكر أن النساء سيعدن للبيت "سكرانات" لا يخدم الرأي القائل بمنع هذا الأمر أبداً. ومن الردود التي وصلتني يومها هو أن هذه الخطب الركيكة والمواعظ السخيفة إنما تعكس ثقافة المتحدث والبيئة التي جاء منها، فحين نكون أمام مفحط تائب أو مدمن سابق، فماذا نتوقع؟ وتم توجيه اللوم لمن سمح لهؤلاء باعتلاء المنابر وتشويه سمعة الدعوة والدعاة، وهذا رأي فيه الكثير من المنطق، لكن حين تصدر أمورٌ مشابهة من شخص يحمل تخصصاً دقيقاً في الشريعة، وخطيب جمعة، وداعية معروف له برامجه التلفزيونية، فمن الملام هنا؟

على برنامجه الشهير في إحدى الفضائيات تم ذكر قصة عنوانها "مأساة فتاة مبتعثة " للمرة الأولى، وبعدها تناقلتها وسائل الإعلام الرقمي بسرعة البرق. ملخصها أن فتاة من أسرة طيبة ومتدينة، والدهم إمام مسجد قد ركبت موجة الابتعاث، فأرسلت شاباً وأخته أعمارهما دون العشرين للدراسة في الخارج، فوقعا في الإدمان، الشاب أولاً ثم جر أخته لذلك، ووصل الأمر في النهاية إلى أن باعت عرضها لأخيها من أجل المخدر! ثم إلى الممول، وصارت تحمل وتجهض عشرات المرات من كثرة معاشرة أخيها والمدمنين والممولين. ثم علم أخوهما الكبير بأمرهما فعاد بهما للسعودية وتعالجا بحمدالله، بل وصار الأخ حافظاً للقرآن والأخت أيضاً تابت توبة عظيمة وهي تذكر قصتها هذه للعظة والعبرة من الابتعاث! وفي القصة كما يوردها الدكتور تفاصيل وعبارات مخجلة حاولت أن أعفي القارئ منها، وسأعلق تالياً عليها.

ابتداء، كان للكثيرين فعلاً تحفظات ليس على برنامج الابتعاث لذاته، وإنما للطريقة التي يتم بها اختيار المبتعثين، ومن ثم إرسال بعضهم ولا سيما صغار السن دون تأهيل كافٍ. وأعتقد أنني كتبت خلال السنوات الماضية أربعة أو خمسة مقالات حول القضية، فأن تكون لك وجهة نظر مختلفة أمر طبيعي، لكن هذا لا يعني أن يتم نسف فوائد هذا البرنامج، ولا أن يتم تشويه صورة المبتعثين والمبتعثات بالاعتماد على قصة شبه خيالة، فما قيمة التربية والدين والتعليم إذا كان المرء سينهار أمام أول اختبار؟ ثم هل الإدمان في الغرب فقط؟ وهل الاعتداء على المحارم هناك فقط؟ من يصل إلى هذا المستوى الحقير سيفعل فعلته هنا أو هناك.

الأمر الثاني، الابتعاث مدعوم مادياً ومعنوياً من قبل الدولة، ويأتي منسجماً مع خططها التنموية، فهل يحق للدكتور أن يأتي ويحذر من أمر تقره الدولة وتباركه؟

الأمر الثالث، آلاف الأسر ابتعثت أبناءها وبناتها للدراسة، وفي ـ ربما ـ نصف الحالات كان الأخ الشقيق هو المحرم الوحيد القادر على الذهاب مع أخته، وشرط المحرم للمبتعثة مما أصر عليه أهل العلم والدين وجعلوه أساسياً في نظام البعثة والوزارة، فكيف ستكون مشاعر هؤلاء الأهالي وهم يسمعون بقصة تبعث بكل الأفكار السيئة إلى عقولهم عن أمور لا يتخيلها المرء إطلاقاً؟ وماذا لو لعب الشيطان برأس بعض أولياء الأمور وبدأ يشك بابنه وابنته ومن ثم سحب موافقته على البعثة، وأعاد ابنته للوطن قبل أن تنهي دراستها، فتكون قد ضاعت أموال الدولة كما وقتها وجهدها هدراً؟ بل كيف ستشعر المبتعثة ويفكر محرمها حينما يسمعان بهذه القصة؟ هل ستجعل أحدهما يتوجس من الآخر؟ إن العلاقة بين الأشقاء والشقيقات علاقة مميزة جداً رغم الاختلافات التي قد تحدث بينهما، والأخ غيور جداً على أخته في الغالب إلى درجة مرضية أحياناً، فكيف يصبح هو المجرم الذي يجب أن تحترز منه؟ نعم هناك حالات شاذة بدأت تطفو على سطح المجتمع تذكر قصص اعتداء لشباب على أخواتهم تحت تأثير المخدر أو السكر لكنها تظل حالات شاذة لا يجب أن تُعمم.

الأمر الرابع: ما الداعي لذكر التفصيلات التي تستحضر الذل والعملية الجنسية في ذهن المتلقي؟ ما الذي تضيفه هنا سوى إنتاج الخيالات الشهوانية؟ ولماذا يتم ذكر تفصيلات أخرى قد تتسب في تأجيج الأحقاد مع دول شقيقة؟ لماذا كان يجب معرفة أن الممول" كويتي"؟ لماذا لم يقل "عربي" مثلاً؟ حتى لو أن هذه التفصيلات مذكورة في رسالة الفتاة، فكان الأولى به المضي إلى الشاهد والمستفاد من القصة دون ثرثرة ضررها أكثر نفعها.

الأمر الأخير: لماذا عنوان القصة "مأساة فتاة مبتعثة" وليست "مأساة شاب مبتعث"؟ برأيي أن نكبة الشاب أعظم، لأنه المرتكب لكبيرة الزنا بالمحارم ولخيانته لأهله وبلده بينما الفتاة ضحية، أم إن هذا العنوان يخدم رأي الشيخ الدكتور الذي يعارض ابتعاث الفتيات وليس الشباب؟

كما أسلفت من حق الشيخ الدكتور أن يعبر عن رأيه، وأن يكون ضد الابتعاث، فهذا ليس عيباً، لكن عليه أن يوضح للناس الأسباب والحجج، لا أن يعمد إلى تشويه صورة المبتعثين، ويطرح قصصاً خيالية فيها الكثير من البهارات الجنسية، فهذا مما لا يليق لا بالشيخ ولا بالدعوة ولا بالوطن. وحتى لو اعتبرنا أن القصة حقيقية بالفعل فلا يجب نشرها على هذا النحو، فليس كل ما يعلم يقال.