لو كررت فكرتك عشرين مرة وظننت أنهم فهموا عليك فأنت متفائل، وحين نتكلم فإن المستمع يفهم بآلات فهمه وليس بما يسمع ولو كان أعذب الحديث، وهذا يعني أن الصيني لن يفهم شيئا من الصربي إلا بحركات اليدين والسيمياء الوجهية، وحركات اليدين لغة عالمية ولكنها محدودة جدا، ويقال إن هذه اللغة أي لغة الجسد أو حركة الرأس واليدين مغروسة فينا من مرحلة ما قبل تطور اللغة.
وعن لغة الجسد وأهميتها أنها أحد اللغات الثلاث عندنا ونحن نتطور في الخلق طبقا عن طبق، من اللغة السيمائية إلى الصوتية إلى الكتابة جاءت تجربة عجيبة ينقلها الجاحظ عن أبي شمرة؛ فالرجل كان يعتقد أن اللغة يجب أن تخلع تأثيرها على المتلقي دون إضافات من حركات رأس ويدين وتلاعب بطبقة الصوت!
ويقول عنه الجاحظ إن أبا شمرة هذا كان يتحدث إلى تلاميذه مثل التمثال وكأن الكلام يأتي من صدع صخرة، فلما سمع به إبراهيم النظام وهو عقل عبقري من عقول مدرسة المعتزلة جاءه في مجلسه فبدأ في الرد عليه وتفنيد كلامه فلم يكن أمام أبو شمرة إلا أن يقفز من مجلسه ويبدأ في الخبط على فخذي النظام المزعج، ويعلق الجاحظ على هذه الحادثة أن تلاميذ أبي شمرة كانوا يتلقون المعلومات دون نقاش فيخرسون، ولكن إبراهيم النظام فجَّر الجو مما دفع أبا شمرة أن يرجع إلى غريزته البدائية في استخدام لغة الجسد.
ولقد وقع تحت يدي أكثر من كتاب في موضوع السيمياء هذا أي الحديث ليس بالصوت بل بإشارات الرأس واليدين والجسد، وذهب التكريتي في كتابه عن البرمجة اللغوية العصبية (NLP) التي اشتهرت كثيرا مؤخرا، أن الكتابة قد تعطيك 13% من الحقيقة لترتفع مع الصوت إلى حوالي 47% لتصل إلى ما فوق الستين في الحضور الشخصي الذي يشترك فيه طبقة الصوت مع لغة الجسد.
وهكذا فإن لغة الخطاب يجب أن تمشي حواجز فوق الحواجز من اللغة السيمائية واللغة الثقافية، وجرت العادة أن من يسمع يؤكد ما عنده أكثر مما يتلقى من الآخر. وأذكر يوما أنني خطبت الجمعة وخرجت فجاءني أحدهم يهنئني على الخطبة فلما سألته عما سمع وعما كنت أتحدث؟ أجاب طبعا كنت تتحدث عن الإسلام؟ وبالطبع لم أكن أتحدث بالكفر، ولا كنت أشرح خرافات الكتاب الأخضر للقذافي المحتضر حاليا أو الأحمر لماوتسي دونج الصنم الصيني؟
وربما يمكن أن ندرك الأمر بتصور أن أحدنا دخل مغارة حافلة بالكنوز في الظلام فلا يرى شيئا من كنوز الكهف ما لم يكن عنده من الإضاءة الكفاية، وكذلك الحال لو فتح القرآن رجل لا يحسن إلا الصربية فلن يستفيد من كنوز القرآن بشيء، تأكيدا لهذا المبدأ الذي نتحدث عنه في قوانين البناء المعرفي، أن الإنسان يستفيد مما حوله بما يملك أكثر مما هو موجود فعليا، وحين يحسن الإنسان أداة العمل بالشيء استخدمه فأبدع، وفي القرآن مثل عجيب عن الحمار الذي يحمل فوق ظهره أطنان الكتب فلا يستفيد منها بشيء بسبب عدم وجود آلة الفهم.
وبالتالي فإن توسيع المدارك يعتمد على صقل مهارات التلقي وفهم ما حولنا، سواء كان بتعلم اللغة الألمانية فندخل بحور الفلسفة ونحلق في غمام الفن وسحب الموسيقى العذبة، أو الإنجليزية فندخل بوابات النت والطب، أو العربية التي منّ الله بها علينا فنفهم القرآن بالتكرار والرد وإدراك مراميه وكنوزه الخفية.
وهذا القانون ينفعنا أن نكون أكثر تواضعا وغفرانا أن هناك الكثير مما نضيعه لأنه بكل بساطة لا نملك أدوات الوصول إليه، ومنه قول القرآن وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.